سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 78 - الجزء 1

  ولا يميلُ، أخذَ دينَه من منبَعِه؛ فارتوى من عذبٍ سلسبيلٍ، ماؤُهُ الزلالُ، فسرى في شرايينِه حتى بلغَ كلَّ شعرةٍ وبشرةٍ في جسمِه، فشعَ بنورِ الإيمانِ في جوانحِه فأضاءَ ما حولَه، فأبصرَ رُشدَه، واهتدى بهداه، كما وصف محمدٌ ÷ عمارَ بنَ ياسرٍ بقوله: «عمارٌ مُلئَ إيماناً مِن قرنِه إلى قدمِه».

  فكان من الصنفِ الذين وصفَهُمُ الرسولُ ÷ بقولِه: «مَن أخذَ دينَه عن التفكرِ في آلاءِ اللهِ، والتدبرِ لكتابِ اللهِ، والتفهمِ لسنتي، زالت الرواسي ولم يزُل، ومن أخذَ دينَه من أفواهِ الرجالِ، وقلدَهم فيه، ذهبتْ به الرجالُ من يمينٍ إلى شمالٍ، وكان من دينِ اللهِ على أعظمِ زوالٍ».

  هناك رجالٌ عرفوا اللهَ فعبدوه، وعظموه ووقروه، وَقَرَ الإيمانُ في قلوبِهم فلم يُغيِّروا ولم يُبدلوا، {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} هؤلاء سحرةُ فرعونَ لما تبينَ لهم بأن الحقَّ مع موسى وهارونَ، خروا سجداً، وقالوا: آمنا بربِّ العالمين ربِّ موسى وهارونَ، بانت لهم معالمُ الهدى فأتوا إليها مذعنين، واتضحتْ لهم أنوارُ اليقين فلم يأنفوا ولم يستنكِفوا، ولم يثنِهم خوفُهم مِن فرعونَ وملَئِه، ولم يردعْهم تهديدُه ووعيدُه كما حكى اللهُ ذلك في قوله: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى}.

  بل رَدُّوا عليه بحزم وتحدِّي: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.

  رضوا بالعذابِ الأدنى وصبروا على الأذى، على الرُغْمِ من قُرب عهدِهم بالتوبةِ، إلَّا أنهم لم يَتَراجَعوا قيدَ أَنْمُلَةٍ عن طريقِ الصوابِ {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ}.