الإيضاح في علوم البلاغة،

الخطيب القزويني (المتوفى: 739 هـ)

القول في القصر

صفحة 103 - الجزء 1

  لصاحب وقد رأيت شبحا من بعيد: «ما هو إلا زيد» إذا وجدته يعتقده غير زيد، ويصر على الإنكار، وعليه قوله تعالى: {وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ}⁣[آل عمران: الآية ٦٢].

  وقد ينزّل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب، فيستعمل له الثاني.

  إفرادا نحو {وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}⁣[آل عمران: الآية ١٤٤] أي أنه ÷ مقصور على الرسالة لا يتعدّاها إلى التبري من الهلاك، نزّل استعظامهم هلاكه منزلة إنكارهم إياه، ونحوه {وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ٢٢ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ٢٣}⁣[فاطر: الآيتان ٢٢، ٢٣] فإنه ÷ كان لشدة حرصه على هداية الناس يكرر دعوة الممتنعين عن الإيمان، ولا يرجع عنها، فكان في معرض من ظنّ أنه يملك مع صفة الإنذار إيجاد الشيء فيما يمتنع قبوله إيّاه.

  أو قلبا؛ كقوله تعالى حكاية عن بعض الكفار: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا}⁣[إبراهيم: الآية ١٠] أي أنتم بشر لا رسل، نزّلوا المخاطبين منزلة من ينكر أنه بشر، لاعتقاد القائلين أن الرسول لا يكون بشرا مع إصرار المخاطبين على دعوى الرسالة، وأما قوله تعالى حكاية عن الرسل: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ}⁣[إبراهيم: الآية ١١] فمن مجاراة الخصم للتبكيت والإلزام والإفحام؛ فإن من عادة من ادّعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه أن يعيد كلامه على وجهه، كما إذا قال لك من يناظرك: «أنت من شأنك كيت وكيت» فتقول: «نعم أنا من شأني كيت وكيت، ولكن لا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت أنه يلزم» فالرسل $ كأنهم قالوا: إن ما قلتم من أنّا بشر مثلكم هو كما قلتم لا ننكره، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون الله تعالى قد منّ علينا بالرسالة.

  وأصل الثالث أن يكون ما استعمل له مما يعلمه المخاطب ولا ينكره، على عكس الثاني، كقولك: «إنما هو أخوك» و «إنما هو صاحبك القديم» لمن يعلم ذلك ويقرّ به، وتريد أن ترقّقه عليه، وتنبهه لما يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب، وعليه قول أبي الطيب:

  إنما أنت والد، والأب القا ... طع أحنى من واصل الأولاد⁣(⁣١)

  لم يرد أن يعلم كافورا أنه بمنزلة الوالد، ولا ذاك مما يحتاج كافور فيه إلى الإعلام. ولكنه أراد أن يذكّره منه بالأمر المعلوم؛ ليبني عليه استدعاء ما يوجبه.

  وقد ينزّل المجهول منزلة المعلوم؛ لادعاء المتكلم ظهوره؛ فيستعمل له الثالث،


(١) البيت من الخفيف، وهو في ديوان المتنبي ٢/ ٢٢٦.