القول في الوصل والفصل
  قصر بعض العلماء البلاغة على معرفة الفصل من الوصل، وما قصرها عليه لأن الأمر كذلك، وإنما حاول بذلك التنبيه على مزيد غموضه، وأن أحدا لا يكمل فيه إلا كمل في سائر فنونها؛ فوجب الاعتناء بتحقيقه على أبلغ وجه في البيان، فنقول والله المستعان:
  إذا أتت جملة بعد جملة؛ فالأولى منهما؛ إما أن يكون لها محلّ من الإعراب أو لا.
  وعلى الأول إن قصد التشريك بينهما وبين الثانية في حكم الاعراب عطفت عليها، وهذا كعطف المفرد على المفرد؛ لأن الجملة لا يكون لها محلّ من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد، فكما يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولا في المفرد أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جهة جامعة، كما في قوله تعالى: {يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها}[سبأ: الآية ٢]؛ يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولا في الجملة ذلك، كقولك: زيد يكتب ويشعر، أو يعطي ويمنع، وعليه قوله تعالى: {وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة: الآية ٢٤٥] ولهذا عيب على أبي تمام قوله:
  لا والّذي هو عالم أنّ النّوى ... صبر، وأنّ أبا الحسين كريم(١)
  إذ لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النّوى، ولا تعلّق لأحدهما بالآخر.
  وإن لم يقصد ذلك ترك عطفها عليها، كقوله تعالى: {وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ١٥ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}[البقرة: الآيتان: ١٤، ١٥]. ولم يعطف {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على {إِنَّا مَعَكُمْ} لأنه لو عطف عليه لكان من مقول المنافقين، وليس منه، وكذا قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ١١ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ١٢}[البقرة: الآيتان ١١ - ١٢] وكذا قوله: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ ١٣}[البقرة: الآية ١٣].
  وعلى الثاني إن قصد بيان ارتباط الثانية بالأولى على معنى بعض حروف العطف سوى الواو؛ عطفت عليها بذلك الحرف، فتقول: «دخل زيد فخرج عمرو» إذا أردت أن تخبر أنّ خروج عمرو كان بعد دخول زيد من غير مهلة، وتقول: «خرجت ثمّ خرج زيد» إذا أردت أن تخبر أن خروج زيد كان بعد خروجك بمهلة، وتقول: «يعطيك زيد دينارا،
(١) البيت من الكامل، وهو في ديوان أبي تمام ٣/ ٢٩٠، ودلائل الإعجاز ص ١٧٣، ومعاهد التنصيص ١/ ٩١، ونهاية الإيجاز ص ٣٢٣، وعقود الجمان ص ١٧٣.