الإيضاح في علوم البلاغة،

الخطيب القزويني (المتوفى: 739 هـ)

تقسيم آخر باعتبار آخر

صفحة 198 - الجزء 1

  أخذ شيئا من سمكها من كل الجهات، وله في منقطعه هيئة تشبه آثار الغالية في جوانب المدهن، إذا كانت بقيّة بقيت عن الأصابع، وقوله: «في قراراتها مسك» بين الأمر الأول، ويؤمن من دخول النقص عليه، كما كان يدخل لو قال: «فيها مسك» ولم يشترط أن يكون في القرارة. وأما الثاني فلا يدل عليه كما يدل قوله: «بقايا غالية» لأن من شأن المسك والشيء اليابس، إذا حصل في شيء مستدير له قعر، أن يستدير في القعر، ولا يرتفع في الجوانب الارتفاع الذي في سواد الآذريونة، بخلاف الغالية؛ فإنها رطبة، ثم تؤخذ بالأصابع؛ فلا بد في البقية منها أن يرتفع عن القرارة ذلك الارتفاع ثم هي لنعومتها ترقّ؛ فتكون كالصّبغ الذي لا يظهر له جرم، وذلك أصد للشبه.

  والبليغ من التشبيه ما كان من هذا النوع، أعني البعيد؛ لغرابته، ولأن الشيء إذا نيل بعد الطلب له، والاشتياق إليه؛ كان نيله أحلى، وموقعه من النفس ألطف، وبالمسرّة أولى، ولهذا ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ؛ كما قال: [القطامي]

  وهنّ ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلّة الصّادي⁣(⁣١)

  لا يقال: عدم الظهور ضرب من التعقيد، والتعقيد مذموم؛ لأنا نقول: التعقيد كما سبق له سببان: سوء ترتيب الألفاظ، واختلال الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو المراد باللفظ، والمراد بعدم الظهور في التشبيه ما كان سببه لطف المعنى ودقّته أو ترتيب بعض المعاني على بعض، كما يشعر بذلك قولنا: «في بادئ الرأي» فإن المعاني الشريفة لا بدّ فيها - في غالب الأمر - من بناء ثان على أول وردّ تال إلى سابق، كما في قول البحتري:

  دان على أيدي العفاة ... ... (البيتين)

  فإنك تحتاج في تعرف معنى البيت الأول إلى معرفة وجه المجاز، في كونه دانيا وشاسعا، ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر، ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى، وتنظر: كيف شرط في العلو الإفراط ليشاكل قوله: «شاسع»؟ لأن الشّسوع هو الشديد من البعد، ثم قابله بما يشاكله من مراعاة التناهي في القرب، فقال: «جدّ قريب» فهذا ونحوه هو المراد بالحاجة إلى الفكر، وهل شيء أحلى من الفكر إذا صادف نهجا قويما إلى المراد؟.


(١) البيت من البسيط، وهو للقطامي في ديوانه ص ٨١، ولسان العرب (صدى)، وأساس البلاغة (نبذ).