الإيضاح في علوم البلاغة،

الخطيب القزويني (المتوفى: 739 هـ)

القول في الكناية

صفحة 246 - الجزء 1

  وأنها - لما عرفت من شدّة شكيمته وقوة عزيمته - تنساق في الجهة التي يريدها، وقوله: «بالضرب قد دمّاها» تورية حسنة، ويؤكد أمرها قوله: «صلب العصا».

  الثالثة: المطلوب بها نسبة، كقول زياد الأعجم:

  إن السّماحة والمروءة، والنّدى ... في قبّة ضربت على ابن الحشرج⁣(⁣١)

  فإنه حين أراد أن لا يصرح بإثبات هذه الصفات لابن الحشرج جمعها في قبّة؛ تنبيها بذلك على أن محلّها ذو قبّة، وجعلها مضروبة عليه؛ لوجود ذوي قباب في الدنيا كثيرين؛ فأفاد إثبات الصفات المذكورة له بطريق الكناية.

  ونظيره قولهم: «المجد بين ثوبيه، والكرم بين برديه».

  قال السكاكي: وقد يظنّ هذا من قسم «زيد طويل نجاده» وليس بذاك؛ فـ «طويل نجاده» - بإسناد الطويل إلى النجاد - تصريح بإثبات الطول للنجاد، وطول النجاد كما تعرف قائم مقام طول القامة، فإذا صرح من بعد بإثبات النجاد لزيد بالإضافة؛ كان ذلك تصريحا بإثبات الطول لزيد، فتأمل. وقول الآخر:

  والمجد يدعو أن يدوم لجيده ... عقد مساعي ابن العميد نظامه⁣(⁣٢)

  فإنه شبّه المجد بإنسان بديع الجمال، في ميل النفوس إليه، وأثبت له جيدا على سبيل الاستعارة التخييلية، ثم أثبت لجيده عقدا، ترشيحا للاستعارة، ثم خصّ مساعي ابن العميد بأنها نظامه، فنبه بذلك على اعتنائه خاصة بتزيينه، وبذلك على محبته وحده له، وبها على اختصاصه به، ونبّه بدعاء المجد أن يدوم لجيده ذلك العقد على طلبه دوام بقاء ابن العميد، وبذلك على اختصاصه به. وكقول أبي نواس:

  فما جازه جود، ولا حلّ دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير⁣(⁣٣)

  فإنه كنى عن جميع الجود بأن نكّره، ونفى أن يجوز ممدوحه ويحل دونه فيكون متوزعا، يقوم منه شيء بهذا وشيء بهذا، وعن إثباته له بتخصيصه بجهته بعد تعريفه باللام التي تفيد العموم، ونظيره قولهم: «مجلس فلان مظنّة الجود والكرم» هذا قول السكاكي.


(١) البيت من الكامل، وهو في الأغاني ١٠/ ١٤٨، والشعر والشعراء ١/ ٤٣٠، ودلائل الإعجاز ص ٢٣٧، ومفتاح العلوم ص ١٩٢، والإيضاح ص ٣٢٤، والطراز ١/ ٤٢٢.

(٢) الرجز في مفتاح العلوم ص ١٧٢.

(٣) البيت من الطويل، وهو في ديوان أبي نواس ص ١٨٦، ودلائل الإعجاز ص ٢٣٩، والطراز ١/ ٤٢٣.