الإيضاح في علوم البلاغة،

الخطيب القزويني (المتوفى: 739 هـ)

القول في الكناية

صفحة 247 - الجزء 1

  وقيل: كنى بالشطر الأول عن اتّصافه بالجود، وبالثاني عن لزوم الجود له.

  ويحتمل وجها آخر، وهو: أن يكون كل منهما كناية عن اختصاصه به، وعدم الاقتصار على أحدهما للتأكيد والتقرير، وذكرهما على الترتيب المذكور لأن الأولى بواسطة بخلاف الثانية.

  وكقولهم: «مثلك لا يبخل» قال الزمخشري: نفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك؛ فسلكوا به طريق الكناية؛ لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه، وعمن هو على أخصّ أوصافه؛ فقد نفوه عنه.

  ونظيره قولك للعربي: «العرب لا تخفر الذّمم» فإنه أبلغ من قولك: «أنت لا تخفر».

  ومنه قولهم: «أيفعت لداته، وبلغت أترابه» يريدون إيفاعه وبلوغه.

  وعليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}⁣[الشّورى: الآية ١١] على أحد الوجهين وهو أن لا تجعل الكاف زائدة.

  قيل: وهذا غاية لنفي التشبيه؛ إذ لو كان له مثل لكان لمثله شيء (يماثله) وهو ذاته تعالى، فلما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ}⁣[الشّورى: الآية ١١] دل على أنه ليس له مثل.

  وأورد أنه يلزم منه نفيه تعالى؛ لأنه مثل مثله، ورد بمنع أنه تعالى مثل مثله، لأن صدق ذلك موقوف على ثبوت مثله، تعالى عن ذلك!.

  وكقول الشّنفرى الأزديّ في وصف امرأة بالعفة:

  يبيت بمنجاة من اللّوم بيتها ... إذا ما بيوت بالملامة حلّت⁣(⁣١)

  فإنه نبّه بنفي اللوم عن بيتها على انتفاء أنواع الفجور عنه، وبه على براءتها منها، وقال: «يبيت» دون «يظلّ» لمزيد اختصاص الليل بالفواحش.

  هذا على ما رواه الشيخ عبد القاهر والسكاكي، وفي الأغاني الكبير، «يحلّ بمنجاة».

  وقد يظنّ أن هنا قسما رابعا، وهو أن يكون المطلوب بالكناية الوصف والنسبة معا، كما يقال: «يكثر الرماد في ساحة عمرو» في الكناية عن أن عمرا مضياف، وليس بذاك؛ إذ ليس ما ذكر بكناية واحدة، بل هو كنايتان: إحداهما عن المضيافية، والثانية عن إثباتها لعمرو.


(١) البيت من الطويل، وهو للشنفرى في المفضليات ص ١٠٩، ودلائل الإعجاز ص ٢٣٩.