القول في أحوال متعلقات الفعل
  وإما لأنه أريد ذكره ثانيا على وجه يتضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه؛ إظهارا لكمال العناية بوقوعه عليه، كقول البحتري أيضا:
  قد طلبنا فلم نجد لك في السّؤ ... دد والمجد والمكارم مثلا(١)
  أي قد طلبنا لك مثلا في السّؤدد والمجد والمكارم، فحذف المثل؛ إذ كان غرضه أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل، ولأجل هذا المعنى بعينه عكس ذو الرمة في قوله: [غيلان بن عقبة]
  ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيما أن يكون أصاب مالا(٢)
  فإنه أعمل الفعل الأول الذي هو «أمدح» في صريح لفظ «اللئيم» والثاني الذي هو «أرضي» في ضميره؛ إذ كان غرضه إيقاع نفي المدح على اللئيم صريحا دون الإرضاء، ويجوز أن يكون سبب الحذف في بيت البحتريّ قصد المبالغة في التأدّب مع الممدوح، بترك مواجهته بالتصريح بما يدل على تجويز أن يكون له مثل، فإن العاقل لا يطلب إلا ما يجوز وجوده.
  وإما للقصد إلى التعميم في المفعول، والامتناع عن أن يقصره السامع على ما يذكر معه دون غيره، مع الاختصار، كما تقول: «قد كان منك ما يؤلم» أي ما الشرط في مثله أن يؤلم كلّ أحد وكلّ إنسان، وعليه قوله تعالى: {وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ}[يونس: الآية ٢٥] أي يدعو كلّ أحد.
  وإما للرعاية على الفاصلة، كقوله سبحانه وتعالى: {وَالضُّحى ١ وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ٢ ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ٣}[الضّحى: الآيات ١ - ٣] أي وما قلاك.
  وإما لاستهجان ذكره، كما روي عن عائشة ^ أنها قالت: «ما رأيت منه ولا رأى منّي» تعني العورة.
  وإما لمجرد الاختصار، كقولك: «وأضغيت إليه» أي أذني، و «أغضيت عليه» أي بصري. ومنه قوله تعالى: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}[الأعراف: الآية ١٤٣] أي ذاتك، وقوله تعالى: {أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً}[الفرقان: الآية ٤١] أي بعثه الله، وقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: الآية ٢٢] أي أنه لا يماثل، أو ما بينه وبينها من التفاوت، أو أنها لا تفعل كفعله، كقوله تعالى: {مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ}[الرّوم: الآية ٤٠] ويحتمل أن يكون المقصود نفس الفعل من غير تعميم، أي:
(١) البيت من الخفيف، وهو في الإشارات والتنبيهات ص ٨٢.
(٢) البيت من الوافر، وهو في ديوان ذي الرمة ص ١٥٥١.