القول في الوصل والفصل
  وقد غرضت من الدنيا، فهل زمني ... معط حياتي لغرّ بعد ما غرضا؟(١)
  جرّبت دهري وأهليه، فما تركت ... لي التجارب في ودّ امرئ غرضا
  أي: لم تقول هذا ويحك؟! وما الذي اقتضاك أن تطوي عن الحياة إلى هذا الحد كشحك؟!
  وإما عن سبب خاص له، كقوله تعالى: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}[يوسف: الآية ٥٣]، كأنه قيل: هل النفس أمارة بالسوء؟ فقيل: إن النفس لأمارة بالسوء.
  وهذا الضرب يقتضي تأكيد الحكم، كما مر في باب أحوال الإسناد.
  وإما عن غيرهما، كقوله تعالى: {قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ}[هود: الآية ٦٩] كأنه قيل: فماذا قال إبراهيم #؟ فقيل: قال: سلام، ومنه قول الشاعر:
  زعم العواذل أنّني في غمرة ... صدقوا، ولكن غمرتي لا تنجلي(٢)
  فإنه لما أبدى الشّكاية من جماعات العذّال، كان ذلك مما يحرّك السامع ليسأل: أصدقوا في ذلك، أم كذبوا؟ فأخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له؛ ففصل، ومثله قول جندب بن عمّار:
  زعم العواذل أن ناقة جندب ... بجنوب خبت عرّيت وأجمّت(٣)
  كذب العواذل، لو رأين مناخنا ... بالقادسيّة؛ قلن: لجّ وذلت
  وقد زاد هنا أمر الاستئناف تأكيدا بأن وضع الظاهر موضع المضمر، من حيث وضعه وضعا لا يحتاج فيه إلى ما قبله، وأتى به مأتى ما ليس قبله كلام، ومن الأمثلة قول الوليد:
  عرفت المنزل الخالي ... عفا من بعد أحوال(٤)
  عفاه كلّ حنّان ... عسوف الوبل هطّال
  فإنه لما قال «عفا» وكان العفاء مما لا يحصل للمنزل بنفسه؛ كان مظنة أن يسأل عن الفاعل، ومثله قول أبي الطيب:
(١) البيتان من البسيط، وهما للمعري في المفتاح ص ١١٥.
(٢) البيت من الكامل، وهو بلا نسبة في الإشارات والتنبيهات ص ١٢٥، والتبيان للطيبي ص ١٤٢.
(٣) البيتان من الكامل، وهما في ديوان الحماسة شرح الرافعي ١/ ١٨، والمفتاح ص ١١٥، ودلائل الإعجاز ص ١٨٢.
(٤) البيتان من الهزج، وهما للوليد بن يزيد في المفتاح ص ١١٥، ودلائل الإعجاز ص ١٨٤.