الإيضاح في علوم البلاغة،

الخطيب القزويني (المتوفى: 739 هـ)

القول في الوصل والفصل

صفحة 127 - الجزء 1

  وإما للتوسط بين حالتي كمال الانقطاع وكمال الاتصال، وهو ضربان:

  أحدهما: أن يتّفقا خبرا أو إنشاء، لفظا ومعنى، كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ١٣ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ١٤}⁣[الانفطار: الآيتان ١٣، ١٤]، وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ}⁣[الرّوم: الآية ١٩]، وقوله: {يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ}⁣[النساء: الآية ١٤٢]، وقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}⁣[الأعراف: الآية ٣١].

  والثاني: أن يتفقا كذلك معنى لا لفظا، كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا}⁣[البقرة: الآية ٨٣] عطف قوله: {قُولُوا}⁣[البقرة: الآية ١٣٦] على قوله: {لا تَعْبُدُونَ}⁣[البقرة: الآية ٨٣] لأنه بمعنى: لا تعبدوا، وأما قوله: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}⁣[البقرة: الآية ٨٣] فتقديره: إما «وتحسنون» بمعنى «وأحسنوا» وإما «وأحسنوا» وهذا أبلغ من صريح الأمر والنّهي؛ لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه.

  وأما قوله في سورة البقرة: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا}⁣[البقرة: الآية ٢٥] فقال الزمخشري فيه: فإن قلت: علام عطف هذا الأمر، ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه؟ قلت: ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر، حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين؛ فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإرهاق، وبشّر عمرا بالعفو والإطلاق، ولك أن تقول: هو معطوف على {فَاتَّقُوا}⁣[البقرة: الآية ٢٤] كما تقول: يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشّر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم، هذا كلامه، وفيه نظر لا يخفى على المتأمل.

  وقال أيضا في قوله تعالى في سورة الصف: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}⁣[البقرة: الآية ٢٢٣]: إنه معطوف على {تُؤْمِنُونَ}⁣[النّساء: الآية ٥٩] لأنه بمعنى: آمنوا، وفيه أيضا نظر؛ لأن المخاطبين في {تُؤْمِنُونَ}⁣[النّساء: الآية ٥٩] هم المؤمنون، وفي {بَشَرٌ}⁣[آل عمران: الآية ٤٧] هو النبي #، ثم قوله: {تُؤْمِنُونَ}⁣[النّساء: الآية ٥٩] بيان لما قبله على سبيل الاستئناف، فكيف يصح عطف {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}⁣[البقرة: الآية ٢٢٣] عليه؟

  وذهب السكاكي إلى أنهما معطوفان على «قل» مرادا قبل: {يا أَيُّهَا النَّاسُ}⁣[البقرة: الآية ٢١]، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}⁣[الصّف: الآية ١٠]؛ لأن إرادة القول بواسطة انصباب الكلام إلى معناه غير عزيزة في القرآن، وذكر صورا كثيرة، منها قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا}⁣[البقرة: الآية ٥٧] وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ