الإيضاح في علوم البلاغة،

الخطيب القزويني (المتوفى: 739 هـ)

القول في الوصل والفصل

صفحة 129 - الجزء 1

  ثلاثة تشرق الدّنيا ببهجتها ... شمس الضّحى، وأبو إسحاق، والقمر⁣(⁣١)

  أو تضاد، كالسواد والبياض، والهمس والجهارة، والطّيب والنّتن، والحلاوة والحموضة، والملاسة والخشونة، وكالتحرّك والسكون، والقيام والقعود، والذهاب والمجيء، والإقرار والإنكار، والإيمان والكفر، وكالمتصفات بذلك كالأسود والأبيض، والمؤمن والكافر.

  أو شبه تضاد، كالسماء والأرض، والسهل والجبل، والأول والثاني؛ فإن الوهم ينزل المتضادين والشبيهين بهما منزلة المتضايفين، فيجمع بينهما في الذهن، ولذلك تجد الضّد أقرب خطورا بالبال مع الضدّ.

  والخياليّ أن يكون بين تصوّريهما تقارن في الخيال سابق، وأسبابه مختلفة ولذلك اختلفت الصور الثابتة في الخيالات ترتبا ووضوحا؛ فكم تتعانق في خيال، وهي في آخر لا تتراءى، وكم صورة لا تكاد تلوح في خيال، وهي في غيره نار على علم.

  كما يحكى أن صاحب سلاح ملك، وصائغا، وصاحب بقر، ومعلّم صبية؛ سافروا ذات يوم، وواصلوا سير النهار بسير الليل، فبينما هم في وحشة الظلام، ومقاساة خوف التخبّط والضلال؛ طلع عليهم البدر بنوره، فأفاض كل منهم في الثناء عليه، وشبّهه بأفضل ما في خزانة صوره، فشبّهه السّلاحيّ بالتّرس المذهّب يرفع عند الملك، والصائغ بالسبيكة من الإبريز تفترّ عن وجهها البوتقة، والبقار بالجبن الأبيض يخرج من قالبه طريّا، والمعلّم برغيف أحمر يصل إليه من بيت ذي مروءة.

  وكما يحكى عن ورّاق يصف حاله: عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدقّ من مسطرة، وجاهي أرقّ من الزجاج، وحظّي أخفى من شقّ القلم، وبدني أضعف من قصبة، وطعامي أمرّ من العفص، وشرابي أشدّ سوادا من الحبر، وسوء الحال لي ألزم من الصّمغ.

  ولصاحب علم المعاني فضل احتياج إلى التنبه لأنواع الجامع، لا سيما الخيالي، فإن جمعه على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في ذلك كالجمع بين الإبل، والسماء والجبال والأرض، في قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ١٧ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ١٨ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ١٩ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ٢٠}⁣[الغاشية: الآيات ١٧ - ٢٠] بالنسبة إلى أهل الوبر فإن جلّ انتفاعهم في معاشهم من الإبل؛ فتكون عنايتهم مصروفة إليها، وانتفاعهم منها لا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب


(١) البيت من البسيط، وقد تقدم مع تخريجه.