تقسيم السكاكي للبلاغة
  وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوين المقصود؛ تصويرا لاقتداره تعالى، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، كأنها عقلا مميزون، قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده.
  ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام؛ فقال تعالى: {قِيلَ}[البقرة: الآية ١١] على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز خطاب الجماد، وهو: «يا أرض» و «يا سماء»
  ثم قال: «يا أرض» و «يا سماء» مخاطبا لهما، على سبيل الاستعارة، للشبه المذكور.
  ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم، بجامع الذهاب إلى مقرّ خفي.
  واستتبع ذلك تشبيه الماء بالغذاء على طريق الاستعارة بالكناية؛ لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزرع والأشجار، وجعل قرينة الاستعارة لفظ «ابلعي» لكونه موضوعا للاستعمال في الغذاء دون الماء.
  ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدّم ذكره.
  ثم قال: «ماءك» بإضافة الماء إلى الأرض، على سبيل المجاز؛ تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، واستعار لحبس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل؛ للشبه بينهما في عدم ما كان، وخاطب في الأمرين ترشيحا للاستعارة.
  ثم قال: {وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[هود: الآية ٤٤] فلم يصرّح بالغائض، والقاضي، والمسول، والقائل، كما لم يصرح بقائل «يا أرض» و «يا سماء» سلوكا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية أن تلك الأمور العظام لا تتأتّى إلا من ذي قدرة لا تكتنه، قهّار لا يغالب؛ فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون الفاعل لشيء من ذلك غيره.
  ثم ختم الكلام بالتعريض لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم ختم إظهار لمكان السّخط، ولجهة استحقاقهم إياه.
  وأما النظر فيها من حيث علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها، وجهة كل تقديم وتأخير بين جملها، فلذلك أنه اختير «يا» دون سائر أخواتها لكونها أكثر استعمالا، ولدلالتها على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة، ويؤذن بالتهاون به.