تقسيم السكاكي للبلاغة
  ولم يقل: «يا أرض» بالكسر تجنّبا لإضافة التشريف؛ تأكيدا للتهاون.
  ولم يقل: «يا أيتها الأرض» للاختصار، مع الاحتراز عما في «أيّتها» من تكلّف التنبيه غير المناسب للمقام، لكون المخاطب غير صالح للتنبيه على الحقيقة.
  واختير لفظ الأرض دون سائر أسمائها لكونه أخفّ وأدور.
  واختير لفظ السماء لمثل ذلك مع قصد المطابقة.
  واختير «ابلعي» على «ابتلعي» لكونه أخصر، ولمجيء حظ التجانس بينه وبين «اقلعي» أوفر.
  وقيل: «ماءك» بالإفراد دون الجمع لدلالة الجمع على الاستكثار الذي يأباه مقام إظهار الكبرياء، وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء.
  ولم يحذف مفعول «ابلعي» لئلا يفهم ما ليس بمراد، من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وغيرها؛ نظرا إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء.
  ثم إذ بيّن المراد اختصر الكلام على «أقلعي» فلم يقل: «أقلعي عن إرسال الماء» احترازا عن الحشو المستغنى عنه من حيث الظاهر، وهو الوجه في أنه لم يقل: يا أرض ابلعي ماءك فبلعت، ويا سماء اقلعي فأقلعت.
  واختير «غيض الماء» على «غيّض»؛ لكونه أخصر وأخفّ، وأوفق لقيل.
  وقيل: «الماء» دون أن يقال: «ماء طوفان السماء» وكذا «الأمر» دون أن يقال: «أمر نوح» للاختصار.
  ولم يقل: «سوّيت على الجوديّ» بمعنى أقرّت على نحو «قيل» و «غيض» و «قضي» في البناء للمفعول؛ اعتبارا لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله: «وهي تجري بهم» مع قصد الاختصار.
  ثم قيل: «بعدا للقوم» دون أن يقال: «ليبعد القوم» طلبا للتوكيد مع الاختصار، وهو نزول «بعدا» منزلة «ليبعدوا بعدا» مع إفادة أخرى، وهي استعمال اللام مع «بعدا» الدالّ على معنى أن البعد حقّ لهم.
  ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع، حتى يدخل فيه ظلمهم لأنفسهم بتكذيب الرسل.
  هذا من حيث النظر إلى الكلم.
  وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل، فذلك أنه قدم النداء على الأمر؛ فقيل: {يا أَرْضُ ابْلَعِي}، و {يا سَماءُ أَقْلِعِي} دون أن يقال: «ابلعي يا أرض، واقلعي يا سماء»