الكلام في بيان أن القرءان في أعلى طبقات الفصاحة
  أن يجري ذكر شيء ثم يتجاوزه إلى غيره، ثم يذكر ثانياً، كما قال جرير:
  متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام
  فجمعت هذه الآيات وجوها من الفصاحة، منها جزالة اللفظ، ومنها الاستعارة، ومنها تشبيه بعد تشبيه، ومنها الالتفات بعد الالتفات.
  ومن التشبيه الواقع قوله ø بعد هذه الآية: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ}[النور: ٣٩]. لما كانت أعمالهم محبطة لا نفع فيها في الآخرة، شبهها بالسراب الذي لا نفع فيه، ولأنه مما يظن الناظر أنه ماء، وكذلك الكافر لما يظن أن ل هـ نفعا في عمله، شبهه أيضا به، فهذان وجهان من التشبيه. وفيه تشبيه ثالث وهو انكشاف حال كل واحد منهما عن أنه لا نفع فيه لراجيه. وفيه تشبيه آخر وهو تشبيه الكافر بالظمآن، وتشبيه ظنه بظنه، وتشبيه خيبته بخيبته عند شدة حاجته إليه، و قوة تعويله عليه، فقد جمعت الآية هذه الوجوه من التشبيهات مع جزالة اللفظ، وحسن المعنى، وقد عُدَّ من محاسن امرئ القيس أنه جمع بين تشبيهين في بيت واحد، حيث يقول:
  كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي