التبصرة في التوحيد والعدل،

المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني (المتوفى: 411 هـ)

باب [التوحيد]

صفحة 32 - الجزء 1

باب [التوحيد]

  فإن قال قائل: فما النظر المفضي به إلى معرفة الله تعالى؟

  قيل له: هو النظر فيما ذكره الله تعالى، حيث يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ١٦٤}⁣[البقرة]، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ٣٠}⁣[الأنبياء]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ١٢ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ١٣ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ١٤}⁣[المؤمنون]، وغير ذلك من الآيات التي معناها معنى هذه الآيات.

  وبيان ذلك أنا قد علمنا أن هذه الأجسام التي ذكرها الله تعالى في كتابه، لا بد أن تكون على أحوال لا يصح كونها عليها إلا بالفاعل المدبر، لعلمنا أن الكتابة لا تكون إلا من كاتب، ولا البناء إلا من بانٍ، والتصوير لا يكون إلا من مصوِّر، وقد ثبت أن الفاعل يجب أن يكون متقدما لفعله، فثبت أن الصانع يجب أن يكون متقدما لجميع هذه الأجسام، إذ قد ثبت أن هذه الأجسام لا تنفك من أحوال لا يجوز أن تكون عليها إلا بالصانع، وإذا ثبت تقدم الصانع لهذه الأجسام، ثبت حدوثها، لأن من تأخر وجوده عن وجود غيره، فلا شك في حدوثه، وإذا ثبت حدوث الأجسام، وجب أن يكون الذي دبرها وأوجدها على تلك الأحوال، هو الذي أحدث عينها وفعلها، إذ الفعل لا بد له من فاعل على ما بينا.