الباب الرابع والستون في ذكر الجنة والنار وما يتصل بذلك
  رضوان الله عليه، قال:
  لَمَّا قَدِمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ # إِلَى الْبَصْرَةِ بَعْدَ قِتَالِ الْجَمَلِ دَعَاهُ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَاتَّخَذَ لَهُ طَعَامًا، وَبَعَثَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا أَحْنَفُ؛ ادْعُ أَصْحَابِي، فَدَعَاهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مُتَخَشِّعُونَ كَأَنَّهُمْ شِنَانٌ بَوالٍ.
  فَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ مَا هَذَا الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ؟ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ، أَمْ مِنْ هَوْلِ الْحَرْبِ؟
  قَالَ: لَا يَا أَحْنَفُ، إِنَّ اللهَ ø إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا تَنَسَّكُوا لَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا تَنَسُّكَ مَنْ هَجَمَ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ فَزَعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُشَاهِدُوهَا، فَحَمَّلُوا أَنْفُسَهُمْ كُلَّ مَحْمُودِهَا، وَكَانُوا إِذَا ذَكَرُوا صَبَاحَ يَوْمِ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ تَعَالَى تَوَهَّمُوا خُرُوجَ عُنُقٍ مِنَ النَّارِ، يَحْشُرُ الْخَلَائِقَ إِلَى رَبِّهِمْ ø، وَظُهُورَ كِتَابٍ تَبْدُو فِيهِ فَضَائِحُ ذُنُوبِهِمْ، فَكَادَتْ أَنْفُسُهُمْ تَسِيلُ سَيَلَانًا، وَتَطِيرُ قُلُوبُهُمْ بِأَجْنِحَةِ الْخَوْفِ طَيَرَانًا، وَتُفَارِقُهُمْ عُقُولُهُمْ إِذَا غَلَتْ بِهِمْ مرَاجِلُ الْمَرَدِّ إِلَى اللهِ ø غَلَيَانًا، يَحُنُّونَ حَنِينَ الْوَالِهِ فِي دُجَى الظُّلَمِ، ذُبُلُ الْأَجْسَامِ، حَزِينَةٌ قُلُوبُهُمْ، كَالِحَةٌ وُجُوهُهُمْ، ذَابِلَةٌ شِفَاهُهُمْ، خَمِيصَةٌ بُطُونُهُمْ، تَرَاهُمْ سُكَارَى وَلَيْسُوا بِسُكَارَى، هُمْ سُمَّارُ وَحْشَةِ اللَّيَالِي، مُتَخَشِّعُونَ، قَدْ أَخْلَصُوا للهِ أَعْمَالَهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً.
  فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ وَقَدْ نَامَتِ الْعُيُونُ، وَهَدَأَتِ الْأَصْوَاتُ، وَسَكَنَتِ الْحَرَكَاتُ مِنَ الطَّيْرِ فِي الْوُكُورِ، وَقَدْ نَهْنَهَهُمْ يَوْمُ الْوَعِيدِ! ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَأَمِنَ أَهۡلُ ٱلۡقُرَىٰٓ أَن يَأۡتِيَهُم بَأۡسُنَا بَيَٰتٗا وَهُمۡ نَآئِمُونَ ٩٧}[الأعراف] فَاسْتَيْقَظُوا لَهَا فَزِعِينَ، وَقَامُوا إِلَى مَصَافِّهِمْ يُعْوِلُونَ، وَيَبْكُونَ تَارَةً، وَيُسَبِّحُونَ لَيْلَةً مُظْلِمَةً بَهْمَاءَ.
  فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ - يَا أَحْنَفُ - قِيَامًا عَلَى أَطْرَافِهِمْ، مُنْحَنِيَةً ظُهُورُهُمْ عَلَى أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ لِصَلَوَاتِهِمْ! إِذَا زَفَرُوا خِلْتَ النَّارَ قَدْ أَخَذَتْ فِيهِمْ إِلَى حَلَاقِيمِهِمْ، وَإِذَا أَعْوَلُوا حَسِبْتَ السَّلَاسِلَ قَدْ صَارَتْ فِي أَعْنَاقِهِمْ.
  وَلَوْ رَأَيْتَهُمْ فِي نَهَارِهِمْ إِذًا لَرَأَيْتَ قَوْمًا يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا، وَيَقُولُونَ