تيسير المطالب في أمالي الإمام أبي طالب،

يحيى بن الحسين الهاروني (الإمام أبو طالب) (المتوفى: 424 هـ)

الباب الرابع في وصاياه # وذكر مقتله وقبره

صفحة 145 - الجزء 1

  لَا يُدْرِكُ السَّالِكِ فِي الْمَوْتِ سَبِيلَ مَنْ هَلَكَ غَرِضِ⁣(⁣١) الْأَسْقَامِ وَرَهِينَةِ الْأَيَّامِ وَقَرِينِ الْأَحْزَانِ وَرَمْيَةِ الْمَصَائِبِ وَتَاجِرِ الْغُرُورِ وَغَرِيمِ الْمَنَايَا وَأَسِيرِ الْمَوْتِ وَنُصْبِ الْآفَاتِ وَخَلِيفَةِ الْأَمْوَاتِ.

  أَمَّا بَعْدُ: يَا بُنَيَّ فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي وَجُنُوحِ⁣(⁣٢) الدَّهْرِ عَلَيَّ وَإقْبَالِ الْآخِرَةِ إِلَيَّ مَا يَنْزَعُ بِي عَنْ ذِكْرِي سِوَايَ وَالِاهْتِمَامِ بِمَا وَرَاءِي، غَيْرَ أَنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ الدُّنْيَا هَمُّ نَفْسِي فَصَدَقَنِي رَأْيِي وَصَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ وَصَرَّحَ لِي فَحْصَ أَمْرِي وَأَفْضَى بِي إِلَى جِدٍّ لَا يَزْرِي بِهِ لَعِبٌ وَصِدْقٍ لَا يَشُوبُهُ كَذِبٌ وَجَدْتُكَ يَا بُنَيَّ بَعْضِي⁣(⁣٣)، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي، حَتَّى كَأَنْ لَوْ أَنَّ شَيْئًا أَصَابَكَ أَصَابَنِي وَحَتَّى لَوْ أَنَّ الْمَوْتَ أَتَاكَ أَتَانِي، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي كَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا إِنْ بَقِيتُ أَوْ فَنِيتُ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ وَلُزُومِ أَمْرِهِ وَعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ، وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ، فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: {وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ}⁣[آل عمران: ١٠٣]، وَأَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ يَكُونُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ؟!

  فَأَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ، وَمَرِّنْهُ عَلَى الزُّهْدِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَذَلِّلْهُ بِالْمَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجِائِعَ الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَنَحْسِ تَقَلُّبِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وَذَكِّرْهُ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَكَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثارِهِمْ، وَانْظُرْ مَا فَعَلُوا وَأَيْنَ حَلُّوا وَعَمَّا انْقَلَبُوا؛ فَإِنَّكَ تَجِدُهُمُ انْتَقَلُوا عَنِ الْأَحِبَّةِ، وَنَزَلُوا دَارَ الْغُرْبَةِ، فَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ؛ فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ، وَلَا تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ، وَدَعِ الْقَوْلَ فِيمَا لَا تَعْرِفُ، وَالنَّظَرَ فِيمَا لَمْ تُكَلَّفْ، وَأَمْسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إِذَا خِفْتَ ضَلَالَتَهُ؛ فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ حَيْرَةِ الطَّرِيقِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ


(١) الغرض: الهدف يرمى فيه، جمعه أغراض. (قاموس) وفيه: الهدف محركة كل مرتفع من بناء أو كثيب رمل أو جبل والغرض. (هامش هـ).

(٢) كذا في الخطية، وفي نخ (مجد، هـ) المطبوعة: جموح، وفوقها في (هـ): جنوح. نخ.

(٣) جواب حيث. فالظرف جاء هنا بمعنى الشرط فلذا احتاج للجواب، وقد صرح سيبويه بمثل هذا، حكاه عنه الرضي في شرح الكافية.