الباب الرابع في وصاياه # وذكر مقتله وقبره
  وفي رواية أخرى: وَإِيَّاكَ وَالِاتِّكَالَ عَلَى الْأَمَانِيِّ؛ فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى، وَتَثْبِيطٌ عَنِ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَخَيْرُ حَظِّ الْمَرْءِ قَرِينٌ صَالِحٌ، قَارِبْ(١) أَهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ، وَبَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ، وَلَا يَغْلِبَنَّ عَلَيْكَ سُوءُ الظَّنِّ فَإِنَّهُ لَا يَدَعُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ خَلِيلِكَ صُلْحًا، وَذَكِّ قَلْبَكَ بِالْأَدَبِ كَمَا تُذَكَّى النَّارُ بِالْحَطَبِ، كُفْرُ النِّعْمَةِ لُؤْمٌ، وَصُحْبَةُ الْأَحْمَقِ شُؤْمٌ.
  وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي دُعَائِكَ وَتَكَفَّلَ بِإِجَابَتِكَ، وَأَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ، وَهُوَ رَحِيمٌ بَصِيرٌ، لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ، وَلَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَلَمْ يُعَاجِلْكَ بِالنِّقْمَةِ، وَفَتَحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ وَالْأَسْبَابِ، فَمَتَى شِئْتَ سَمِعَ دُعَاءَكَ وَنَجْوَاكَ، فَأَفْضِ إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ، وَبُثَّ ذَاتَ نَفْسِكَ، وَأَسْنِدْ إِلَيْهِ أُمُورَكَ، وَلَا تَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ، وَلَا مِمَّا يَلْزَمُكَ خَبَالُهُ وَيَبْقَى عَلَيْكَ وَبَالُهُ؛ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ تَرَى عَاقِبَةَ أَمْرِكَ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا.
  وَاعْلَمْ - يَا بُنَيَّ - أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلْآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا وَلِلْبَقَاءِ لَا لِلْفَنَاءِ وَلِلْحَيَاةِ لَا لِلْمَوتِ، وَأَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَةٍ، وَطَرِيقٍ إِلَى الْآخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَرِيدُ الْمَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو هَارِبُهُ، فَأكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ وَمَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ وَتُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ، وَاجْعَلْهُ أَمَامَكَ حَيْثُ تَرَاهُ فَيَأْتِيَكَ وَقَدْ أَخَذْتَ حِذْرَكَ، وَاذْكُرِ الْآخِرَةَ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُزَهِّدُكَ فِي الدُّنْيَا وَيُصَغِّرُهَا عِنْدَكَ، مَعَ أَنَّ الدُّنْيَا قَدْ نَعَتْ إِلَيْكَ نَفْسَهَا، وَتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِئِهَا، وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَاهُ مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِهَا إِلَيْهَا؛ وَتَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّمَا هُمْ كِلَابٌ عَادِيَةٌ، وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ، يَهُرُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا، وَكَثِيرُهَا قَلِيلَهَا.
  وَاعْلَمْ - يَا بُنَيَّ - أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ؛ فَإِنَّهُ يُسارُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسِرْ، وَإِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ بِخَرَابِ الدُّنْيَا وَعِمَارَةِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ تَزْهَدْ فِيمَا زَهَّدْتُكَ فِيهِ مِنْهَا، وَرَغِبْتَ
(١) في نسخة: قَارِنْ.