الباب الرابع عشر في الخطب والمواعظ وما يتصل بذلك
  الْآخِرَةِ رَاغِبًا، وَعَلَيْكَ بِالصِّدْقِ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ تَنْجُ مَعَ النَّاجِينَ غَدًا، يَا غُلَامُ؛ إِنْ تَزْرَعْ هَذَا الْكَلَامَ نُصْبَ عَيْنَيْكَ يَنْفَعْكَ اللهُ بِهِ).
  ثُمَّ أَطْلَقَ عِنَانَ الْبَغْلَةِ عَنْ يَدِهِ، وَقَرَصَ بَطْنَهَا بِعَقِبِهِ، فَجَعَلْتُ أَقْفُو أَثَرَهُ، إِذْ دَخَلَ سُوقًا مِنْ أَسْوَاقِ الْبَصْرَةِ، فَسَمِعْتُهُ # يَقُولُ:
  (يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ؛ يَا أَهْلَ الْبُصَيْرَةِ؛ يَا أَهْلَ الْمُؤْتَفِكَةِ؛ يَا أَهْلَ تَدْمُرَ - أَرْبَعًا - إِذَا كُنْتُمْ بِالنَّهَارِ الدُّنْيَا تَخْدُمُونَ، وَبِاللَّيْلِ عَلَى فُرُشِكُمْ تَتَقَلَّبُونَ، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ عَنِ الْآخِرَةِ تَغْفُلُونَ؛ فَمَتَى تَرُمُّونَ الزَّادَ؟! وَمَتَى تُفَكِّرُونَ فِي الْمَعَادِ؟!).
  فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ السُّوَقَةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمَعَاشِ.
  قَالَ: (أَيُّهَا الرَّجُلُ؛ إِنَّ طَلَبَ الْمَعَاشِ لَا يَصْدِفُكَ عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ، أَلَا قُلْتَ: لَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الِاحْتِكَارِ، فَأَعْذُرَكَ إِنْ كُنْتَ مَعْذُورًا).
  فَتَوَلَّى الرَّجُلُ وَهُوَ يَبْكِي.
  فَسَمِعْتُهُ # يَقُولُ: (أَقْبِلْ عَلَيَّ يَا ذَا الرَّجُلُ أَزِدْكَ تِبْيَانًا: إِنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ عَامِلٍ مِنْ أَنْ يُوَفَّى فِي الْقِيَامَةِ أَجْرَ عَمَلِهِ، وَعَامِلُ الدُّنْيَا إِنَّمَا أَجْرُهُ النَّارُ).
  ثُمَّ خَرَجَ مِنَ السُّوقِ وَالنَّاسُ فِي رَنَّةٍ مِنَ الْبُكَاءِ، إِذْ مَرَّ بِوَاعِظٍ يَعِظُ النَّاسَ، فَلَمَّا بَصَرَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ # سَكَتَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ، فَقَالَ #:
  (فَكَمْ؟! وَإِلَى كَمْ تُوعَظُونَ فَلَا تَتَّعِظُونَ؟! قَدْ وَعَظَكُمُ الْوَاعِظُونَ، وَزَجَرَكُمُ الزَّاجِرُونَ، وَحَذَّرَكُمُ الْمُحَذِّرُونَ، وَبَلَّغَكُمُ الْمُبَلِّغُونَ، وَدَلَّتِ الرُّسُلُ عَلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ، وَظَهَرَتِ الْمَحَجَّةُ، وَقَرُبَ الْأَمْرُ وَالْأَمَدُ وَلِلْجَزَاءِ غَدٌ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
  يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَرْضِهِ حُجَّةٌ وَلَا حِكْمَةٌ أَبْلَغَ مِنْ كِتَابِهِ، وَلَا مَدَحَ اللهُ أَحَدًا مِنْكُمْ إِلَّا مَنِ اعْتَصَمَ بِحَبْلِهِ، وَإِنَّمَا هَلَكَ عِنْدَمَا عَصَاهُ وَخَالَفَهُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.