تيسير المطالب في أمالي الإمام أبي طالب،

يحيى بن الحسين الهاروني (الإمام أبو طالب) (المتوفى: 424 هـ)

الباب الرابع عشر في الخطب والمواعظ وما يتصل بذلك

صفحة 315 - الجزء 1

  لِبَعْضِ عَبِيدِهِ لَمَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ، وَلَا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ، وَلَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَايِرِ الْإِفْضَالِ مَا لَمْ تُنْفِدْهُ مَطَالِبُ السُؤَّالِ، وَلَا تَخْطُرُ لِكَثْرَتِهِ عَلَى بَالٍ؛ لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لَا تَنْقُصُهُ الْمَوَاهِبُ، وَلَا يُبَخِّلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ، وَإِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِمَنْ هُوَ هَكَذَا سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ.

  أَيُّهَا السَّائِلُ؛ اعْقِلْ مَا سَأَلْتَنِي عَنْهُ، وَلَا تَسْأَلَنَّ أَحَدًا عَنْهُ بَعْدِي؛ فَإِنِّي أَكْفِيكَ مَؤُونَةَ الطَّلَبِ، وَشِدَّةَ التَّعَمُّقِ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَيْفَ يُوصَفُ الَّذِي سَأَلْتَنِي عَنْهُ؟! وَهُوَ الَّذِي عَجِزَتِ الْمَلَائِكَةُ مَعَ قُرْبِهِمْ مِنْ كُرْسِيِّ كَرَامَتِهِ، وَطُولِ وَلَهِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَعْظِيمِ جَلَالِ عِزَّتِهِ، وَقُرْبِهِمْ مِنْ غَيْبِ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ؛ أَنْ يَعْلَمُوا مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمْ، وَهُمْ مِنْ مَلَكُوتِ الْقُدْسِ بِحَيْثُ هُمْ، وَمِنْ مَعْرِفَتِهِ عَلَى مَا فَطَرَهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: {سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ ٣٢}⁣[البقرة].

  فَعَلَيْكَ أَيُّهَا السَّائِلُ بِمَا دَلَّكَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ صِفَتِهِ، وَتَقَدَّمَكَ فِيهِ الرُّسُلُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، فَأْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ، فَإِنَّمَا هِيَ نِعْمَةٌ وَحِكْمَةٌ أُوتِيتَهَا، فَخُذْ مَا أُوتِيتَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ عَلَيْكَ فِي الْكِتَابِ فَرْضُهُ وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللهِ عَلَيْكَ.

  اعْلَمْ أَيُّهَا السَّائِلُ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ الِاقْتِحَامِ عَلَى السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ الْإِقِرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ، فَقَالُوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، فَمَدَحَ اللهُ سُبْحَانَهُ اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْمًا، وَسَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْهُ مِنْهُمْ رُسُوخًا، فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ.

  وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَمْ يَحْدُثْ فَيُمْكِنُ فِيهِ التَّغَيُّرُ وَالِانْتِقَالُ، وَلَمْ تَتَصَرَّفْ فِي ذَاتِهِ كُرُورُ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ عَلَيْهِ عُقُبُ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ، وَلَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ كَانَ قَبْلَهُ، بَلْ أَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ