باب المبتدأ
  فإن قلت: فلم كان هذا المعنى موجبا عملا، وحق العامل أن يكون ملفوظا به، وهذا غير ملفوظ به؟!.
  قلت: إن العوامل على ضربين: لفظي، ومعنوي. وهذا من جملة المعنوي. وجاز أن يكون هذا المعنى عاملا، لأنه معنى يختص بالأسماء، فكما أن العامل اللفظي، إذا اختص بالاسم أو الفعل [٢٤ / ب] عمل فيه، فكذا المعنى إذا اختص بأحدهما، عمل فيه. فنظير هذا المعنى في المستقبل، وقوعه موقع الاسم. ألا ترى أنه عامل معنوي ويجيء على مذهب أبي الحسن عامل معنوي غير ذينك، وهو كون التابع جاريا على متبوعه، نحو: مررت بزيد الظريف، ينجر ظريف عنده، لكونه تابعا للمجرور(١).
  فإن قلت: فهذا المعنى الذي ادعيتموه، ليس مخصوصا بالاسم، بل هو موجود في الفعل أيضا، فلم عمل فيه، وكل عامل يشمل القبيلين، لم يعمل في واحد منهما، وذلك قولهم: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)(٢) فقولك: تسمع، معرى من العوامل اللفظية، مجعول للخبر عنه، وهو قولك: خير من أن تراه فهو كقولك: زيد منطلق؟!.
  قلت: إن قولهم: تسمع بالمعيدي، لم يوجد فيه إحدى الشرائط، وذلك، لأنه وإن كان معرى من العوامل اللفظية، فهو غير معرّض لها. ألا ترى، أنك، لو قلت: إنّ تسمع، أو كان تسمع، أو ظن تسمع، لم يجز. على أنّ قولهم: تسمع بالمعيدي في تقدير أن تسمع بالمعيدي، فحذفت أن، وهي مرادة. وأن وما بعده في تقدير المصدر. وتقديره: سماعك بالمعيدي خير من أن تراه. فلما حذفت (أن) ارتفع الفعل على ما كان في الأصل. وحذف (أن) في الكلام سائغ حسن. قال عز من قائل: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ} (٦٤)(٣). أي: تأمروني أن أعبد غير الله. فحذف أن. وقال الله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا}(٤). فيمن قرأ بالياء(٥). أي: أن
(١) الإنصاف (مسألة ٥) ١: ٤٧.
(٢) مثل من أمثال العرب، وفيه روايتان أخريان هما: لأن تسمع، وأن تسمع، والمختار: أن تسمع. وروي: تسمع بالمعيدي لا أن تراه. ويضرب لمن خبره خير من مرآه. البرصان - للجاحظ ٨٣، والزاهر ٢: ٤٧، ومجمع الأمثال ١: ١٢٩، رقم ٦٥٥، واللسان (م ع د) ٣: ٤٠٦.
(٣) ٣٩: سورة الزمر ٦٤.
(٤) ٨: سورة الأنفال ٥٩.
(٥) وهي، قراءة: ابن عامر، وحمزة، وحفص. السبعة ٣٠٧، وحجة القراءات ٣١٢.
وإنما اشترط الشارح القراءة بالياء، لأنها تستدعي حذف (أن)، لأن (الذين كفروا) هو الفاعل، ويبقى الفعل (حسب) يطلب مفعوليه، فأين هما؟ لذا فالكلام ينبسط على أحد أوجه ثلاثة: الأول: أن يكون النبي ﷺ هو: الفاعل، فيكون تقدير الكلام: ولا يحسبن النبي، الذين كفروا سبقوا. فالذين، وما بعده سد مسد مفعولي حسب.
الثاني: أن يكون على تقدير حذف (أن). كأنه قال: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، أي: أنهم سبقوا.
فجملة أن سبقوا سدت مسد مفعولي حسب. فهو مثل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} ٢٩: سورة العنكبوت ٢.
الثالث: أن يكون قد أضمر المفعول الأول. والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا. =