الفن الأول: علم المعاني
  ... .....
  أنه لا يخلو الحال عن أحدهما، وليس الإخبار حال الجنون كذبا؛ لأنه جعل قسيمه، ولا صدقا؛ لأنهم لا يعتقدونه، فثبت الواسطة، قلت: وهذا لا يدل لهذا القول فقط، بل يدل لأن المطابقة ليست هي معيار الصدق، ووراء هذا أمران: إما اشتراط الأمرين وثبوت الواسطة كما ذكر، أو اشتراط الاعتقاد فقط في كل من الطرفين، ليكون خبر غير المعتقد واسطة؛ لكن هذا القول لم يثبت عن أحد؛ إنما هو احتمال ذكره الخطيبي في كلام المصنف.
  وأجاب المصنف بأن المعنى: أفترى أم لم يفتر، وعبر عن الثاني بالجنة؛ لأن المجنون لا افتراء له، وحاصله أن الافتراء ليس مطلق الكذب؛ بل الكذب عن عمد، ويكون خبر المجنون كذبا لا عمد فيه، أو لا يكون صدقا ولا كذبا، لا باعتبار أن ثم واسطة، بل باعتبار أن ما ينطق به ليس مقصودا، فليس بكلام. وهذان جوابان ذكرهما ابن الحاجب في المختصر، ولك فيهما طريقان: أحدهما: أن يكون الجنون أريد به لازمه مجازا، والثاني: أن يكون أريد معناه كناية، فهذه أربعة أجوبة. واستدل للجاحظ أيضا بقول عائشة ^: «ما كذب ولكنه وهم»(١) وأجاب بتأويل ما كذب عمدا، وهو مجاز تخصيص.
  واعلم أن قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ}(٢) قد يرد على الجاحظ؛ فإنه تعالى سمى قولهم كذبا، مع أنه لم تحصل عدم المطابقة، بل عدم الاعتقاد؛ لكن لا يرد عليه على الجواب السابق؛ لأنهم أخبروا أنهم معتقدون لذلك، وإخبارهم غير مطابق، ولا هم معتقدون.
  (تنبيه) قد يطلق الكذب على عدم المطابقة والصدق في المطابقة في غير الخبر، كقوله ﷺ: «وكذب بطن أخيك»(٣)، وقول الأنصار: «إما لصدق عند اللقاء»، وقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ}(٤)، وقال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ}(٥)،
(١) أخرجه بنحوه مسلم في «صلاة المسافرين»، (٢/ ٤٨٤) ط. الشعب.
(٢) سورة المنافقون: ١.
(٣) أخرجه البخاري في «الطب»، (١٠/ ١٧٨)، (ح ٥٧١٦)، ومسلم (ح ٢٢١٧).
(٤) سورة الفتح: ٢٧.
(٥) سورة القمر: ٥٥.