الفن الأول: علم المعاني
  ... ... ... .....
  ومنها: قوله: «لو كان لي مثل أحد ذهبا لسرنى أن لا يمر على ثلاث ليال وعندي منه شئ إلا شئ أرصده لدين»(١) والواقع أنه كان يسره أن لا يمر عليه ثلاث ليال وعنده ذهب، وجوابه: أن معنى أن لا يكون عندي منه أن يفرغ، فمعناه لو كان لي لسرنى أن أصرفه، وامتناع ذلك بأن لا يكون له وجود حتى يصرف.
  ومنها: قوله: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم»(٢) فيلزم أن يمتنع ذلك، والواقع أن ناسا ادعوا ذلك، وجوابه أن المعنى لفسدت أحوال الناس، وضاعت غالب دمائهم وأموالهم، المدلول عليه بقوله ﷺ: (لادعى ناس) ولا يصح الجواب بأن النكرة في سياق الشرط للعموم، لما سبق. قلت: قال الشيخ أبو عمرو بن الحاجب: إن (لو) تدل على امتناع الأول لامتناع الثاني، بعكس ما ذكره النحاة، قال:
  وهذا أولى؛ لأن الأول سبب للثاني، وانتفاء السبب، لا يدل على انتفاء المسبب، لجواز أن يخلفه سبب آخر، وانتفاء المسبب يدل على انتفاء كل سبب، فصح أن يقال: امتنع الأول لامتناع الثاني، ألا ترى إلى قوله تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا}(٣) كيف سيق للدلالة على انتفاء العدد بانتفاء الفساد، لا أن امتناع الفساد لامتناع التعدد؟
  لأنه خلاف المفهوم؛ ولأن نفى الآلهة غير الله لا يلزم منه نفى فساد هذا العالم! ورد عليه الخطيبي بأنا لا نسلم أن انتفاء السبب لا يدل على انتفاء المسبب، إذا لم يكن للمسبب سبب سواه، وما نحن فيه كذلك؛ لأن (لو) في كلام العرب إنما تستعمل في الشرط الذي لم يبق للمسبب سواه، فإذا حصل حصل، وإذا انتفى انتفى، وذلك علم بالاستقراء والنقل، فانتفاء السبب بعد (لو) يدل على انتفاء المسبب وأيضا لا نسلم أن انتفاء المسبب يدل على انتفاء السبب، وإنما يلزم ذلك أن لو كان النقص قادحا وليس كذلك مطلقا (قلت): الكلامان ضعيفان؛ أما كلام ابن
(١) بهذا اللفظ أخرجه البخاري في «التمني»، باب: تمنى الخير، (١٣/ ٢٣١)، (ح ٧٢٢٨)، من حديث أبي هريرة، وقد أخرجاه معا بنحوه من حديث أبي ذر.
(٢) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في «الأقضية»، باب: اليمين على المدعى عليه، وتمامه: «ولكن اليمين على المدعى عليه»، وهو عند الشيخين بلفظ: «أن رسول الله ﷺ قضى باليمين على المدعى عليه».
(٣) سورة الأنبياء: ٢٢.