الفن الأول: علم المعاني
  .. .....
  القراءة بتنزيل الفعل المتعدى منزلة اللازم، وأورد عليه أنه يلزم الفصل بين المؤكد والمؤكد؛ لأن اقرأ الثاني تأكيد لأقرأ الأول وفصل بينهما بِاسْمِ رَبِّكَ وقد يجاب بأمور، منها: أن هذا ليس بتأكيد، فإن اقرأ الأول نزل منزلة اللازم كما سبق، وإن جعل تأكيدا للأول لم يصح؛ لأن الثاني أخص ولا يكون الأخص تأكيدا للأعم بخلاف العكس، ومنها أن الممتنع الفصل في التأكيد الاصطلاحي، وهذا تأكيد لغوى بيانى لا يمتنع معه الفصل. ومنها: التزام جواز الفصل في مثله كقوله سبحانه {وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ}(١) فقد فصل بين يرضين وكلهن بالجار والمجرور، هذا وهو ليس معمولا للمؤكد، فما كان معمولا أولى، وادعى الزمخشري أن الاختصاص في {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}(٢) أبلغ منه في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} والظاهر أن يريد لما فيه من تكرير المفعول المستدعى لتكرير الجملة، وفيما ذكره نظر، والذي يظهر العكس، فإن {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} لا دلالة فيه على التقديم حتى يفيد الاختصاص؛ لأن عامل إياي جاز أن يكون متأخرا عن إياي، وأن يكون متقدما عليه، فلا يكون المفعول مقدما، فلا اختصاص لا يقال: لا يصح ذلك فإنه لو تقدم العامل لما انفصل الضمير كما ذكره شيخنا أبو حيان في تفسير هذه الآية رادا على من زعم ذلك؛ لأنا نقول: من أسباب الانفصال حذف العامل كما ذكره ابن مالك، وأما {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}(٣) فلا ضرورة فيه، ولا دليل على حذف عامل إياك ومفعول نعبد، بل إياك معمول نعبد المذكور، فيتحقق فيه التقديم المفيد للاختصاص.
  واعلم أن ابن الحاجب قال في شرح المفصل: إن الاختصاص الذي يتوهمه كثير من الناس من تقديم المعمول وهم، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ}(٤) ثم قال تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ}(٥) وهو استدلال
  ضعيف؛ لأن مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أغنى عن إرادة الحصر في الآية الأولى، ولو لم يكن فما الذي يمنع من ذكر المحصور في محل بغير صيغة الحصر، كما تقول: عبدت الله، وتقول: ما عبدت إلا الله، كل سائغ.
  قال سبحانه وتعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ}(٦) وقال تعالى:
(١) سورة الأحزاب: ٥١.
(٢) سورة البقرة: ٤٠.
(٣) سورة الفاتحة: ٥.
(٤) سورة الزمر: ٢.
(٥) سورة الزمر: ٦٦.
(٦) سورة الحج: ٧٧.