الفن الثالث: علم البديع
  
  عينا وهم اليهود إثبات لدخول أحد الفريقين مطلقا، لأن الأخص يستلزم الأعم، فقولهم: لن يدخل الجنة إلا يهودي، يصدق أنه ينسب به إليهم أنهم قالوا: لن يدخل الجنة إلا اليهود أو النصارى؛ لأن من أثبت قيام زيد دون عمرو، يصدق عليه أنه أثبت قيام أحد الرجلين، لا يقال: فيلزم أن يحكى عنهم أنهم قالوا: لن يدخل إلا يهودي أو نصراني أو مسلم، لأنا نقول:
  لما كان مقصودهم الأصلي هو نفى دخول المسلمين صرح بنفيه ولم يذكر الأعم الشامل له، ولما لم يكن قول كل منهم: لن يدخل الجنة إلا يهودي أكثر قبحا من قوله: لن يدخل الجنة إلا يهودي، أو نصراني حكى من كلامهم الثاني الذي هو موجود في ضمن قولهم الأول، بل هو أبلغ في الشناعة عليهم؛ لأنه بين به انصباب غرضهم في اختصاص المسلمين بالإبعاد عن الجنة، فليتأمل ما ذكرناه فإنه حسن دقيق. قيل: ويجوز أن يكون في الآية حذف، والتقدير:
  وقالت اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، فيكون لفا ونشرا بالتفصيل لا الإجمال، وفيه نظر؛ لأن المذكور هو الضمير الشامل للفريقين، فكيف يكون الحذف؟
  (تنبيه): بقي من اللف والنشر قسم ثالث لم يذكره، أشار إليه الزمخشري في قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ}(١) قال: وهذا من باب اللف، وترتيبه ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، إلا أنه فصل بين الفريقين الأولين بالقرينين الآخرين، لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشئ واحد مع إعانة اللف على الاتحاد. ويجوز أن يراد: منامكم في الزمانين وابتغاؤكم فيهما، والظاهر الأول؛ لتكرره في القرآن. قلت: نعم بقي الكلام في صحة ما قاله الزمخشري من جهة الصناعة، وهو في غاية الإشكال؛ لأنه إذا كان المعنى ما ذكره، يكون النهار معمول ابتغاؤكم، وقد تقدم عليه وهو مصدر، وذلك لا يجوز، ثم يلزم إما عطف على معمولى عاملين، أو تركيب لا يسوغ، ثم هذه الواو في «وابتغاؤكم» كيف موقعها؟ فليتأمل. وهذا يعكر على ما تقدم من حد اللف والنشر، فإنه يشعر أنه لا بد من تقدم اللف بجملته، ثم يأتي النشر بعده، وهذا الموضع وقع فيه بعض النشر، قبل تكميل اللف، والعجب أن الطيبي عثر بهذا الموضع، ومع ذلك حد اللف والنشر كما ذكره غيره، ولم يتنبه لإصلاحه بما يدخل هذا النوع، وكان يمكن أن يجعل من اللف والنشر قسم رابع، وهو عكس الثاني، بأن تقول:
  قالت اليهود والنصارى: لا يدخلون الجنة، كما في أحد نوعي الجمع، والتقسيم الذي سيأتي.
(١) سورة الروم: ٢٣.