عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح،

بهاء الدين السبكي (المتوفى: 763 هـ)

الفن الثالث: علم البديع

صفحة 258 - الجزء 2

  ومنها: نحو قوله [من المنسرح]:

  يا خير من يركب المطىّ ولا ... يشرب كأسا بكفّ من بخلا

  ومنها: مخاطبة الإنسان نفسه؛ كقوله [من البسيط]:

  لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النّطق إن لم يسعد الحال


  تقديره: أو يموت منى كريم يقتضى أن التقدير الذي ذكره إنما يكون على القول الثاني، وليس كذلك، لأنه سواء كان تجريدا أو لا، فتقدير منى لا بد منه، وبهذا تعلم أن قوله: فيه نظر، لا يعود على القول الثاني، وقيل: إن وجه النظر هو أن الأصل عدم التقدير اللفظي، لأنا إذا قدرنا: يموت منى كريم وجعلناه تجريدا بحرف، كان فيه حذف لفظي، الأصل عدمه ومنها نحو قوله:

  يا خير من يركب المطىّ ولا ... يشرب كأسا بكفّ من بخلا⁣(⁣١)

  فإنه جرد من كفه كف غير بخيل، والإشارة بهذا النوع إلى تجريد ما لم يقصد به التشبيه، وهو بغير حرف، وهو كالذي قبله، إلا أن أو يموت كريم تجريد بمنطوق، وهذا تجريد بمفهوم، لأن قوله: بكف من بخلا ليس فيه تجريد، بل مفهومه أنه يشربها بكف من لم يبخل، فكأنه جرد من نفسه غير بخيل، وأثبت بالمفهوم أنه يشربها بكفه. وقد أنكر الطيبي أن يكون هذا تجريدا؛ لأن التجريد يكون من منطوق، لا من مفهوم. وقيل: إن قوله: بكف من بخلا كناية، وفيه نظر، لأن الكناية لا تنافى التجريد، ومنها أن يكون بغير حرف، ولا يقصد التشبيه، وهذا هو الذي قبله، إلا أن هذا اختص بنوع، وهو مخاطبة الإنسان نفسه، كقوله أي المتنبي:

  لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النّطق إن لم يسعد الحال⁣(⁣٢)

  قلت: وقد يكون ذلك بغير المخاطبة، فإن قيل: أين المبالغة في التجريد بخطاب الإنسان لنفسه؟ قلت: كأنه يجعل نفسه لكمال الإدراك، كأن فيها نفسا أخرى، ومن


(١) انظر الإيضاح الفقرة ٢٤٣، ص ٣١٦.

البيت للأعمش الأكبر أعشى قيس.

(٢) البيت من البسيط، وهو لأبى الطيب المتنبي في ديوانه ٢/ ٢٢٠، وهو ضمن قصيدة قالها يمدح بها أبا شجاع فاتك المعروف بالمجنون عندما قدم من الفيوم إلى مصر فوصل أبا الطيب وحمل إليه هدية قيمتها ألف دينار فقال يمدحه.