باب مذ ومنذ
  الرؤية في أول هذا الوقت، لأنه، لما قلت: لم أره، فكأنه قيل لك: من متى؟. فقلت: منذ يوم الجمعة. فهذا كله يدور في التقدير على سؤال السائل. وإذا قلت: لم أره منذ يومان، فتقديره: أمد ذلك يومان. فأمد ذلك: مبتدأ. ويومان: الخبر. وإذا قلت: منذ يوم الجمعة، فكأنه قال: أول ذلك يوم الجمعة. فافهم هذا، فإنه من المشكلات، ولم يوضحه لك أحد سوى أبي بكر بن السري، |، ونقل عنه لفظه، بعينه فارسهم في الإيضاح(١).
  وأما إذا كانا حرفين، فهما يدلان على أول الوقت. ويقدر تقدير: (من) أو تقدر (في).
  وزعم قوم أنهما، إنما يجران، لأنهما اسمان مضافان إلى ما بعدهما(٢). فما بعدهما: مجرور بالإضافة، لا لأنهما حرفان، بل هما اسمان مضافان إلى ما بعدهما. فقيل لهم: أو يضاف المبني؟! فقالوا: نعم.
  قال عز من قائل: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(٣)، فأضاف (لدن) إلى (حكيم). وهو مبني، فكذا: مذ ومنذ: يضافان، وهما مبنيان.
  وهذا الكلام، لم يرضه أبو سعيد، |، وقال: إن معنى هذا الكلام يعني: أنت عندنا مذ اليوم، أي: في اليوم، و (في) حرف.
  فكذا ما قام مقامه، وأفاد معناه.
  [قال أبو الفتح]: و (منذ) مبنية على الضم. و (مذ) مبنية على الوقف. فإن لقيها بعدها ساكن، ضمت الذال، لالتقاء الساكنين. تقول: منذ اليوم، ومذ الليلة، فحذفت النون تخفيفا.
  [قلت]: (مذ) و (منذ) إذا كانا حرفين فلا إشكال في بنائهما [٨٩ / ب] لأن الحروف مبنية.
  وكان حق (منذ) أن يبنى على السكون، لكن عدل عنه، لالتقاء الساكنين، واختير الضم من الحركات، إتباعا للميم. ولا يعتد بالنون، حاجزا حصينا، كما لا يعتد بحروف المد واللين. فكما أنهم قالوا في اسم الفاعل من (أنتن) منتن، ومنتن، فضموا التاء، تبعا للميم، ولم يعتدوا بالنون، حاجزا، فكذا هاهنا. وقال بعضهم: منتن، فكسر الميم، تبعا للتاء، ولم يعتد بالنون، حاجزا، وقالوا في: أجيئك: أجؤك. [قال الشاعر]:
  ٢٢٨ - رحلت سميّة، غدوة، أجمالها ... غضبى عليك. فما تقول بدالها(٤)
  فلزم فتحة اللام إلى آخر القصيدة ولم يعتد بالهاء، حاجزا، فكأنه قدر: أجمالا، وبدالا، فكما أن قبل الألف مفتوح، فكذا (أجمالها) و (بدالها) و (زال زوالها) فتح من غير اعتداد بالهاء، كما اعتد به الآخر في قوله:
  ٢٢٩ - كتائب يردي المقرفين نكالها ... ... (٥)
  فضم، ولم يفتح، إلى آخر القصيدة. وقالوا: ردّ، و: ردّ، و: ردّ، فاستجازوا: الفتح، والضم، والكسر. ثم يقولون: ردّه، بالضم، لا غير، و: ردّها، بالفتح، لا غير. فضموا مع المذكر،
(١) المقتصد ٢: ٨٥٣.
(٢) الإنصاف (مسألة ٥٦) ١: ٣٨٢، والمغني ١: ٣٣٥.
(٣) ١١: سورة هود ١.
(٤) سبق ذكره رقم (٦٠)
(٥) صدر بيت من الطويل، لم أهتد إلى قائله.