عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح،

بهاء الدين السبكي (المتوفى: 763 هـ)

الفن الأول: علم المعاني

صفحة 459 - الجزء 1

  ... ... .....


  آخر أو تجرد من الاستفهام بالكلية؟ محل نظر، والذي يظهر الأول ويساعده ما قدمناه عن التنوخي من أن «لعل» تكون للاستفهام مع بقاء معنى الترجى. وقال التنوخي أيضا في نحو: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ}⁣(⁣١): ليس استفهاما محضا، ومما يرجح الأول أن الاستبطاء في قولك: كم أدعوك؟ معناه أن الدعاء قد وصل إلى حد لا أعلم عدده، فأنا أطلب أن أفهم عدده، والعادة تقضى بأن الشخص إنما يستفهم عن عدد ما صدر منه إذا كثر فلم يعلمه، وفى طلب فهم عدده ما يشعر بالاستبطاء، وأما التعجب فالاستفهام معه مستمر؛ لأن من تعجب من شئ فهو بلسان الحال سائل عن سببه، وكأنه يقول: أي شئ عرض لي في حال عدم رؤية الهدهد؟ وأصله أي شئ عرض له؟ لكنه قلبه إلى نفسه مبالغة في الصفة، وأما التثنية على الضلال في نحو قول الإنسان: أين تذهب؟

  مريدا التنبيه على الضلال، فالاستفهام فيه حقيقي؛ لأنه يقول: أخبرني إلى أي مكان تذهب فإني لا أعرف ذلك، وغاية الضلال لا يشعر بها إلى أن تنتهى، فأما قوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}⁣(⁣٢)، فيأتي ما حصل به تحقيق المراد منه، وأما التقرير فاعلم أنهم لم يفصحوا عن مرادهم به، فهل نقول: إن المراد به الحكم بثبوته كقولك: قررت هذا الأمر، أي: أثبته، فيكون حينئذ خبرا، فإن المذكور عقب الأداة واقع نفيا كان أم إثباتا. فالتقرير في أَلَمْ نَشْرَحْ للفعل وهو الشرح، أو المراد أنه طلب إقرار المخاطب به، مع كون

  السائل يعلم، فهو استفهام يقرر المخاطب، أي: يطلب منه أن يكون مقرّا به. ورأيت في كلام أهل الفن ما يقتضى كلا من الاحتمالين.

  وأنت إذا تتبعت الأمثلة في ذلك قطعت في بعضها بأن المراد الأول كقوله تعالى: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}⁣(⁣٣) إن جعلناه تقريرا، وفى البعض بأن المراد الثاني كقوله تعالى: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا}⁣(⁣٤) فإنهم يطلبون إقراره به، كما صرح به المصنف في الإيضاح، وينتظرون جوابه، فإذا أريد باستفهام التقرير المعنى الأول فذلك خبر صرف، وإن أريد الثاني فهل معنى الاستفهام باق فيه أو لا؟ الذي يقتضيه كلام الجميع أنه لا، والذي يظهر خلافه، وأقدم عليه دقيقة وهى أن الاستفهام


(١) سورة الحاقة: ١.

(٢) سورة التكوير: ٢٦.

(٣) سورة الإنسان: ١.

(٤) سورة الأنبياء: ٦٢.