الفن الأول: علم المعاني
  .. ... ... .....
  وكذا قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ}(١)؛ لأن إِنَّا مَعَكُمْ أفاد ثبوتهم على اليهودية، وإِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ أفاد رفع الإسلام ورفع نقيض الشئ إثبات له، كذا قيل وفيه نظر؛ لأن الاستهزاء أخص من الثبات على اليهودية لجواز أن يكونوا على اليهودية ولم يكونوا مستهزئين، بأن يتلفظوا بالإسلام خوفا أو لغير ذلك إلا أن يقال: دلالته على معنى زائد لا ينفى تأكيده لمعنى سابق، وقد يعترض أيضا بأن إِنَّا مَعَكُمْ أفاد ثبوتهم على اليهودية ولا ينافي ذلك أن
  يكون إسلامهم السابق حقا فقولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ أفاد أنهم لم يكونوا مسلمين حين أظهروا الإسلام وحاصله أن إِنَّا مَعَكُمْ أفاد ثباتهم على اليهودية، وإِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ أفاد شيئا زائدا، لا يقال: ليست هذه الآية الكريمة من هذا الباب؛ لأن قوله تعالى: إِنَّا مَعَكُمْ ليست لا محل لها لنصبها بالقول؛ لأنا نقول: هي مستأنفة في كلام الكفار وقد تقدم مثله وقوله: نحو: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إشارة إلى القسم الثاني، وهو أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد اللفظي في اتحاد المعنى مثل: هدى للمتقين، فإن معناه أنه بالغ في الهداية درجة لا يدرك كنهها حتى كأنه هداية محضة وهذا معنى ذلِكَ الْكِتابُ فإن مدلوله أنه الكتاب الكامل دون غيره وكماله باعتبار الهداية (فوزانه وزان زيد الثاني من قولك: جاء زيد زيد) ولا يخفى أن في كون {ذلِكَ الْكِتابُ}(٢) لا محل لإعرابه نظرا وإن كان هو المختار عند الزمخشري قال في الإيضاح: وكذلك {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}(٣) فإن معنى لا يؤمنون معنى ما قبله ويجوز أن يكون لا يؤمنون خبرا وسَواءٌ عَلَيْهِمْ اعتراض (قلت): وعلى الأول لا يصح أيضا أن يكون من هذا القسم؛ لأن سواء عليهم لها محل من الإعراب؛ لأنها خبر إن، ومن الغريب: أن أهل هذا الفن لم يذكروا من أقسام كمال الاتصال أن تكون الثانية صريحة في تأكيد الأولى بإعادتها بلفظها مثل: قام زيد قام زيد فهي تأكيد بنفسها، فهي أجدر أن يحكم عليها بكمال الاتصال مما هو فرع عنها وملحق بها، ولعلهم إنما تركوا ذلك؛ لأن المؤكد الصريح هو نفس المؤكد فكأنهما جملة واحدة فلا تعدد.
(١) سورة البقرة: ١٤.
(٢) سورة البقرة: ٢.
(٣) سورة البقرة: ٦.