مبحث في الإرادة
  أما الجبرية فقد أثبتنا الاختيار بالأدلة القاطعة، منها قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} بمشيئتين حادثتين، وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ} مشيئة محدثة فلن تتجاوز المشيئة القديمة - يعني العلم - فافترق الحال بين الحادث والقديم والعزم وعدمه بمعنى وما تحدث لكم مشيئة إلا أن يشاء الله أن تشاءوا أي أن تكون لكم مشيئة واختيار، فمتعلق المشيئتين هو مشيئة العباد واختيارهم لا إكراههم قال سبحانه وتعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}[البقرة: ٢٥٦] وقال: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}[الزمر: ٧].
  وأما قوله: ومستلزم المستلزم مستلزم، فلا نسلم توقف المشيئة من العبد التي بمعنى المحبة والإرادة على مشيئة الله العلمية؛ لأن إرادة الغير لا تلزم الغير الآخر لعدم المناسبة وإلا لزم في إرادة واحدة أن تكون لأكثرين ولا مانع إلا التحكم على أن (ما تشاءون) في قوة (كل ما تشاءون) تقع موجبة كلية نقيضها موجبة جزئية وما بعدها محمول عليها بتحويل لفظ إلا إلى غير يكون بعض (ما تشاءون) غير (أن يشاء الله)، وبهذا يفسد معنى التمدح فوجب حملها على ما قدمنا، والقرآن يفسر بعضه بعضها، أو تكون {وما تشاءون ...} إلخ سالبة كلية النقيض بعد تبديل طرفي القضية ليس بعض ما يشاء الله أن تشاءون وهو الأنسب لموافقته العموم والخصوص، فالطاعة يشاءها الله ويريدها ويحبها، ويكره المعصية كما قال: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}[الحجرات: ٧] وقال بعد تعداد المعاصي: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء: ٣٨] وقال في سورة الزخرف حاكياً عن المشركين: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}[الزخرف: ٢٠].