فصل في الكلام في حقيقة الشكر
  وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}[الشورى: ٥]، ولم يذكر عنهم أنهم يستغفرون لأنفسهم، وذلك أن اللّه تعالى(١) قد خلقهم شدادا أهل قوّة، قال اللّه تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ٥ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى}[النجم: ٥ - ٦]، وقال: {عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ}[التحريم: ٦]، فوصفهم بالقوة والشّدة، وعصمهم عن الغذاء والنّكاح، وخوف الخلق، فأمكنهم ما هم عليه من طاعة اللّه تعالى.
  واعلم أنه لا يكون العبد شاكرا لربّه حتى يكون مستصغرا لحسناته، مستعظما لسيئاته، وذلك لكثرة نعم اللّه عليه، وعلمه بسره وجهره وقدرته عليه. وقد روي أن أعرابيا سأل رسول اللّه ÷ عن صفة المحبّين للرحمن، فأمر عليّا # أن يخبره، فقال له عليّ #: (يا بادي خذ عني صفة المحبين: عبد استصغر بذله في اللّه، واستعظم ذنبه، وظنّ أنه ليس في السّماوات ولا في الأرض مأخوذ غيره(٢)) قال: فصعق الأعرابي، فلما أفاق قال: أخبرنا يا ابن أبي طالب: هل يكون في حالة أحد أعلا من هذا العبد؟ قال: نعم؛ سبعين درجة.
  ومما يدل على صحة ما قلنا(٣): أنك لو عظّمت أجنبيا(٤) لا نعمة له عليك؛ أنه يستكثر منك النّعمة ويستعظمها، ويكون ذلك منك إليه
(١) في (ش، ي): وذلك لأن اللّه تعالى.
(٢) في (ي): مؤاخذ غيره.
(٣) في (ش): ما قلناه.
(٤) في (ص، م، د): لو أطعمت أجنبيّا.