مجموع بلدان اليمن وقبائلها،

محمد بن أحمد الحجري (المتوفى: 1380 هـ)

الجزء الأول

صفحة 40 - الجزء 1

  الخروج إلى ذلك المتنزه، فلما أفاق ممّا به، وعرف خطأه من صوابه، استعملت الافتنان في عتابه، وأقسمت باللّه ورسوله وكتابه، لا تنزهت بعدها أبدا، ولا تنفست قط إلا الصعدا، فقال للّه درّك وهذا الطراز المذهب، فإنك استعملت هاهنا القول بالموجب، فقلت: وعالم السر والنجوى، ما تعمدت ذلك وإنما جاء عفوا، وما زال يذكرني لطايف قد مرت أحلى من الحلوى، والّذ من المنّ والسلوى، ثم سألني بالأسماء الحسنى، أن أنظم هذا المعنى، فقلت ارتجالا، ولأمره امتثالا: -

  وصديق قال لي ما نظرت ... مثل وادي السيل عيني أبدا

  قد تنفسنا به قلت: نعم ... قد تنفسنا هناك الصعدا

  فاستحسن ذلك، وأراد أن يسلك بي هذه المسالك، فقلت قصّر الأعنة، فاني في حال لا يقوى على إمساك القلم فيها ملاعب الأسنة، وأعلم أني ما خرجت هذا اليوم، إلا لأتذكر أولئك القوم، وأتأسف على انتثار ذلك النظام، والأيادي البيض التي كانت الأطواق والناس الحمام، وأين تلك الدولة، التي كانت عليها طلاوة، ولها في الأسماع والأبصار حلاوة، وأين الملوك الذين تفيئو ظلّ السعادة، وجرت أفعالهم وأقوالهم على وفق الإرادة، وكانوا في الحسن والاحسان ممن له الحسنى وزيادة، وإذا ذلك المنشد قد انشد واستعمل فينا نغمات معبد: -

  ما كان ذكر المنحنا طعمه ... مثل فجاج النحل لولا هم

  كم قد أضفناهم الينا وكم ... وكم على الضم بنيناهم

  تلقى هدايانا إليهم متى ... سارت بها الريح هداياهم

  كم بالأيادي ابتدونا وكم ... واللّه واللّه ابتديناهم

  لهم علينا نعم جمّة ... تاللّه لا نجحد نعماهم

  يا ليتنا بالقول إذ لم يكن ... يسعدنا الفعل جزيناهم

  وحرمة الودّ الذي بيننا ... وبينهم ما إن نسيناهم

  فلما سمع هذا الصوت، نظر إلي نظر المغشي عليه من الموت، ثم إني سألته عن بني أبيه، فتلا علي قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} وما زال يذرف من شؤونه، ويتساقط اللؤلؤ الرطب من عيونه،