درر الفرائد في خطب المساجد،

عبد الله بن صلاح العجري (المتوفى: 1427 هـ)

خطبة في فوائد نعمة الحفظ والنسيان

صفحة 113 - الجزء 1

  أيها المؤمنون، إن الله تعالى اختص الإنسان من بين مخلوقاته بالتكريم فقال جل وعلا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}⁣[الإسراء: ٧٠]، ومن هذا التكريم أن أودع الله فيه جوهرة ثمينة أضاءت جسمه الكثيف حتى جعلته يشع في هذا الكون المليء بالمخلوقات غيره، منحه عقلاً جباراً، وجعل في خزائنه أسراراً كامنة كمون النار في الزناد، تزيد وتنقص وتظهر وتختفي حسب احتياجه لاستعمالها في أمور معاشه ومعاده، وفي تدبير وسائل حياته، من جلب المنافع ودفع المضار وتسهيل سبل السعادة في الدنيا والآخرة، كما أنه تعالى منحه القدرة على النطق للتفاهم مع غيره، وللتعبير والإعراب عما في ضميره، وعلمه البيان وهداه إلى كوامن الأسرار ومستودعات الحكم، ومنحه كذلك بالقوة المدركة والقوة الحافظة، قوة عظيمة تحفظ للإنسان جميع المعاني المحسوسة بأي نوع من أنواع الحس، ثم تبديها وتظهرها له عند حاجته لها، هذه بمفردها نعمة عظيمة، بل من أكبر نعم الله على الإنسان وأنفعها في سير حياته العملية، ونعم الله لا تحصى فكيف لو نقصت هذه القوة من الإنسان؟ وكان لا يحفظ ما يمر على ذهنه من المعاني المحسوسة - لو فقدت الحافظة من الإنسان - لاختلت أحواله وأعماله، ولدخل التشويش والاضطراب على أمور معاشه وعلى أوضاعه الاجتماعية، بل وعلى معاملاته مع أهله وأولاده وصحبه ومجتمعه، إذا صار لا يدري بما جرى عليه من الأمور وما يجري، وإذا لم يتذكر ما أَخذ وما أُخذ منه، وما أعطى غيره وما أعطي، وإذا لم يسترجع ما سمع وما رأى ولا ما قال وما قيل له، وكان ينسى إحسان من أحسن إليه وإساءة من أساء إليه.

  ولو فقد هذه النعمة العظيمة لما اهتدى إلى طريق كان قد سلكه، ولا أن يحفظ علماً تعلمه، ولا أن يتعلم درساً وإن قرأه طول عمره، وفوق هذا لا يكاد يستطيع أن يعتقد ديناً ولا يعرف مذهباً؛ لأن ذلك يحتاج إلى أن يحفظ ما يسمع ولا ينسى ما يقرأ، وهذه كلها لا ترسخ في ذهن عديم الحافظة، فالحافظة من أجل نعم الله.