درر الفرائد في خطب المساجد،

عبد الله بن صلاح العجري (المتوفى: 1427 هـ)

خطبة في فوائد نعمة الحفظ والنسيان

صفحة 114 - الجزء 1

  فإذا فقدت هذه النعمة فقدت الإنسانية من صاحبها، فيبقى كأي حيوان آخر لا يعرف سوى ما يراه بعينه، فإذا زالت صورته زال من ذهنه، فسبحان المنعم المتفضل، فليس لنعمه حصر ولا لآلائه عدٌّ ولا حساب.

  ثم إن ضد هذه النعمة الجليلة هو النسيان، والنسيان أيضاً من أكبر نعم الله على الإنسان، فقد جمع الله في الإنسان بين الحفظ والنسيان، خلتان متناقضتان ومتضادتان، جمعهما الله في مخلوق واحد وجسم واحد على ما فيه صلاح ومنفعة الإنسان، فكما أن الواحد منا مضطر إلى الحفظ فهو كذلك مضطر في بعض حالاته إلى النسيان، فالنسيان من أهم ضروريات البشر اللازمة، بل هو أقوى سلاح لحماية الأذهان من التلف، وهو أضمن كفيل لبقاء الحافظة سليمة صحيحة، وهو أيضاً أقوى مساعد يدرأ عن الحافظة أخطار المتناقضات التي قد تؤدي أحياناً إلى انحلالها واختلالها؛ لأن هذه الحافظة التي تعمل دائماً لا بد لها أن تعتمد أحياناً على النسيان لتستريح من كثرة أعمالها وحركاتها.

  فالحافظة الخالية عن هذا المساعد الذي هو النسيان، شبيهة بمكينة تعمل دون أن يكون لها القدر الكافي من الدهن فإنها لا تلبث أن تنطفئ أو تحترق، وكذلك الذهن فإنه عند تلقيه للأفكار المزعجة أو الحوادث الرهيبة، والأفكار المنهكة والمشوشة أو الأنباء المحزنة، واستمرت على الذهن دون نسيان فإن الذهن حينئذ يصبح معرضاً لخطر التلف، ولكن الله جلت قدرته يزيل هذه الأفكار السقيمة والصور الذهنية المقلقة، ويخرجها عن المخيلة بواسطة النسيان، فلولا النسيان لما سلى أحد عن مصيبته، وكيف يسلو عنها وهو ما دام يتذكرها ويتصورها، ولولا النسيان لما انقضت لمصاب حسرة ما دام شبح المصيبة عالقاً بذهنه، فلا هو ينساها ليسلى، ولا هو غافل عنها فيستريح من وخزها وألمها، طبعاً إن ذلك مما يكدر العيش ويضعف القوى ويفسد الحياة.