فصل في الكلام في الاختلاف في الكتاب
  من اللّه تعالى إلى الناس من أنفسهم؛ ولأنه لو كان من غيرهم لثقل ذلك عليهم، ولما أنسوا إليه بجميع حوائجهم، فحكم العقل أن الكتاب والرسول من اللّه من تمام الحجة وكمال النعمة، وقد قال اللّه تعالى: {كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة: ٢١٣]، وقال تعالى: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء: ١٥]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[آل عمران: ١٦٤].
  قوله تعالى: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يريد: من بعضهم؛ قال اللّه تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ٨٤ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ ...} الآية [البقرة: ٨٤ - ٨٥]، فصحّ أنه أراد بقوله: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} من بعضهم. ومثل هذا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها}[الأعراف: ١٨٩]، يريد أنه خلق الناس بعضهم من بعض وزوّج بعضهم ببعض(١). ولا يصلح رسول إلى شيء إلا من جنسه قال اللّه تعالى لنبيه ÷: {قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا}[الإسراء: ٩٥]، فثبت أن الرسول من اللّه إلى الناس لا يكون إلا منهم.
  ولما صح أن اللّه تعالى متعال عن مشابهة خلقه، ولم يكن ليشافه
(١) في (ش، م، س): من بعض.