[في التحذير من الدنيا]
  واعلموا أيها المؤمنون، أنكم إذا اتقيتم الله حق تقاته بأن أديتم ما به أمرتم، وتركتم ما عنه نهيتم فقد عبدتموه بأفضل عبادته وذكرتموه بأفضل ما ذكر وشكرتموه بأحسن ما شكر، وقد أخذتم بأفضل الصبر والشكر.
  عباد الله، احذروا الموت وقُرْبَه وكَرْبَه وسكراتِه، وأعدوا له عدته، فإن الموت يأتي بأمر عظيم، إما خيرٌ لا يكون معه شرٌّ أبداً، وإما شر لا يكون معه خيرٌ أبداً، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها، ومن أقرب إلى النار من أهلها، فأكثروا ذكر الموت عندما تنازعكم إليه أنفسكم.
  ثم إني أوصيكم ونفسي بالحذر من الدنيا وغرورها فإنما هي كما وصفها الله {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ٤٥}[الكهف]، ويقول: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ}[الحديد: ٢٠].
  فكم ذو أبهة قد صيرته حقيراً، وذو نخوة قد أردته جائعاً فقيراً، مُلْكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وأمنها منكوب، ودارها مخروب، ومن وراء ذلك سكرات الموت وزفراته، وهول المطَّلَع والوقوف بين يدي الحاكم العدل {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ٣١}[النجم].
  ألستم في مساكن الذين كانوا أطول منكم أعماراً، وأبين آثاراً، الذين تعبدوا للدنيا أي تعبد، وآثروها أي إيثار، ثم ارتحلوا عنها بالصغار، وبالذنوب والأوزار، أفهذه الدنيا الدنية تؤثرون؟ أم على هذه الزائلة تحرصون؟ أم إلى هذه الخادعة تطمئنون؟ يقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ١٥ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٦}[هود]، فبئست هذه الدار لمن لا يكون منها على حذر.
  فاتقوا الله عباد الله وتذكروا من كان قبلكم من الأمم الماضية والقرون