[خطبة في الإخلاص وترك الرياء]
  قول الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ٢١}[الجاثية].
  أيها المؤمنون، إن الإنسان بغريزته هلوع وهو من أنواع الشرور جزوع، وللخيرات منوع، وإن النفس ذات شغف بالدنيا وولوع، فلا تؤثروا ما يفنى على ما يدوم، فما بلغتم رتبة في الغناء إلا ابتغيتم إليها مراتباً، فوقفوا أنفسكم على مقدار، وعرفوها عواقب هذه الدار، وأمسكوها بزمام القناعة كيلا تتقحم بكم في النار، فحسبها من المال ما أحله الواحد الأحد، وحضها من كل ما في الأرض ما به قوام الجسد.
  فيا أيها الحاضرون في المجامع، الملقون السمع وأكثرهم غير سامع، ما لي أرى قلوباً قد غابت عن القوالب، ونفوساً قد تفرقت بها المذاهب، تركن إلى المخلوق وتسترزق المرزوق، ضعف المطلوب والطالب.
  فالله تعال قد ضمن الأرزاق وحثكم على العمل، وزجركم عن اقتراف المآثم ونهاكم عن تطويل الأمل، وزهدكم في العاجل ووعدكم بمضاعفة الأجور والله لا يضيع عمل عامل، وكفى بالله وكيلاً وكفيلاً، وبكتابه هادياً ودليلاً، تبصرة لذوي البصائر، وهداية إلى الحق لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، فلا يلفينكم الله حيث نهاكم، ولا يغلبنكم على طاعة أوامره هواكم، ولا تقربوا الشهوات فتبيعوا آخرتكم بدنياكم وتكونوا عن طريق الله مائلين، ولسخطه متعرضين، وارفضوا الدنيا فهي عند الله مرفوضة، كيف لا وهي لا تزن عنده جناح بعوضة، أما رأيتم كيف بسطها لأعدائه وقبضها عن خلاصة أوليائه، ونعتها على لسان خاتم أنبيائه فقال في كتابه الذي تدرسون: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ١٥ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٦}[هود].
  وقال تذكيراً لكل عبد منيب: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ٢٠}[الشورى]،