[خطبة في الإخلاص وترك الرياء]
  وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ١٨ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ١٩}[الإسراء].
  فنازِعوا النفوس قيادها وذكِّروها مردها إلى الله ومعادها، فمن الذي يؤمنكم على ارتكاب الجرائر وأنتم تعلمون أنكم محاسبون على الصغائر والكبائر، ومع ذلك فالحاكم العدل هو رقيب عليكم ولما اقترفتموه مشاهد حاظر، ثم ما الذي أطمعكم في الإقامة والأيام بكم تسافر.
  ألا وإنكم في مبدأ سفر قد استقلت ركائبه، وفي منتهى وقوف قد قُرِّبَتْ خيامه ونجائبه، فعليكم أن تعطوا الحزم حقه، وأن تتزودوا للآخرة فقد علمتم بُعْدَ الشقة، وتخففوا فقد جاوزتكم الرفقة، فإنكم إنما مشيتم في آثار قوم قد عمروا هذه المعاني، وتمتعوا قبلكم هذا المتاع الفاني، طولوا كما طولتم الآمال، وغرتهم كما غرتكم الأماني والإمهال، ثم أخذوا من هذه الدنيا على غفلة، وأبدلوا عن الحلول فيها بالسفر والرحلة، فانقلبوا إلى قبور شديدة الظلم، وبُدِّلوا بالمسرات أهوالاً لا أستطيع التعبير عنها مهما بالغت في الكلم، وخلت عنهم الديار وعفت معالمهم والآثار، كأن لم يلبثوا فيها إلا ساعة من نهار.
  وهكذا تنقضي الأعوام والأحقاب، وتذهب الأعقاب بعد الأعقاب، حتى يلحق الباقي من قد تلف، ويمضي التالي على أثر من قد سلف، فيا خلائف الرفات، ويا أيها الأجساد الذين هم عن قريب أموات، إنما هذه الدنيا خيال كاذب، وإنما المرء فيها عرضة للنوائب فبينما يكون العبد ساهياً في نشوته ولاهياً في قضاء شهوته، مغتبطاً بماله ومبتهجاً مختالاً بهيئته وجماله، راكضاً في ميادين حرصه وآماله؛ إذ دهمته مجامع الآلام وطرقته طرائق الأوجاع والأسقام، وجاءه الموت وسكراته، وتغرغرت بالماء لهاته، وعرق للغصص جبينه، ثم انقطع بعد ذلك نفسه وأنينه، وأدرج ملفوفاً في أكفانه، وحجب عن أحبته وخلانه، وجفاه الأصدقاء والأحباب، وافترش في قبره الجنادل والتراب.