ثالثا: أقوال في الدنيا
  الأسقام، ورهينة الأيام، وقرين الأحزان، ورَمِيَّة المصائب، وتاجرِ الغرور، وغريمِ المنايا، وأسير الموت، ونُصِب الآفات، وخليفة الأموات.
  أما بعد يابُنَيَّ، فإن فيما تَبَيَّنْتُ من إدبار الدنيا عني، وجموح الدهر عَليَّ، وإقبال الآخرة إليّ ما يَنْزِعُ بي عن ذكر من سواي، والإهتمام بما ورائي، غير أني حيث تفرد بي دون هموم الدنيا هَمُّ نفسي، فَصَدَفَني رأيي، وصرفني عن هواي، وصَرَّح لي محضُ أمري، فأفضى بي إلى جدٍ لا يُزْرِي به لعبٌ، وصدقٍ لا يشوبه كذبٌ، وجدتك يا بني بعضي بل وجدتك كلي، حتى كأنْ لو أنَّ شيئاً أصابك أصابني، وحتى لو أنَّ الموت أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يَعْنِيْني من أمر نفسي، كتبت إليك كتأبي هذا إن بقيت أو فنيت. أوصيك بتقوى اللّه، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والإعتصام بحبله، فإن اللّه يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا}[آل عمران ١٠٣]، وأي سبب أوثق من سبب يكون بينك وبين اللّه تعالى، فأحي قلبك بالموعظة، ونوّره بالحكمة ومَرِّنه على الزهد، وقوِّه باليقين، وذَلِّلْه بالموت، وقرِّرْه بالفناء، وبَصِّرْه فجائع الدنيا، وحذره صولة الدَّهر، وفحش تقلب الأيام والليالي، وأعرض عليه أخبار الماضين، وذَكِّره بما أصاب مَنْ قَبْلَكَ، وسِرْ في ديارهم وآثارهم، وانظر فيما فعلوا، وأين حلوا، وعما انقلبوا، فإنك تجدهم انتقلوا عن الأحِبَّة، ونزلوا دار الغُرْبة، فكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم، فاصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، ودع القول فيما لا تَعْرِفْ، والنظر فيما لم تُكَلَّف، وامسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإن الوقوف عند حيرة الطريق خير من ركوب الأهوال، وأمر بالمعروف وكن من أهله، وانكر المنكر بلسانك ويدك، وباين من فعله بجهدك، وجاهد في اللّه حق جهاده ولا تأخذك في اللّه لومة لائم.
  وفي رواية أخرى: وعود نفسك الصَّبر على المكروه ونعم الخلق الصبر، والْجِ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حَرِيْزٍ ومانع عزيز، وأخلص المسألة لربك، فإن في يده العطاء والحرمان، وأكثر مِنْ الإستخارة، واحفظ وصيتي. ومن هاهنا اتفقت الروايتان. ولا تذهبن عنك صفحاً، فإن خير القول ما نَفَعَ، واعلم يا بني أنه لا غنى بك عن حسن الإرتياد، وبلاغ الزاد، مع خفة الظهر، فلا تحمل على ظهرك فوق بلاغك، فيكون ثقلاً ووبالاً، وإذا وجدت