العتبة المنبرية في الأدلة الخطابية،

عبد الله بن يحيى العجري (معاصر)

ثالثا: أقوال في الدنيا

صفحة 369 - الجزء 1

  ٨٨ - ضربت الحكماء مثلا للدنيا نحن نذكره هاهنا، قالوا مثل الدنيا وأهلها كقوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة، فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة وحذرهم المقام، وخوفهم مرور السفينة، واستعجالها، فتفرقوا في نواحى الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة، فصادف المكان خاليا، فأخذ أوسع المواضع وألينها وأوفقها لمراده.

  وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أزهارها وأنوارها العجيبة، وغياضها الملتفة، ونغمات طيورها الطيبة، وألحانها الموزونة الغريبة، ولحظ في تزيينها أحجارها وجواهرها ومعادنها المختلفة الالوان ذوات الاشكال الحسنة المنظر، العجيبة النقش، السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجها، وعجائب صورها، ثم تنبه لخطر فوات السفينة، فرجع إليها فلم يصادف إلا مكانا ضيقا حرجا، فاستقر فيه، وبعضهم أكب فيها على تلك الاصداف والاحجار، وقد أعجبه حسنها، ولم تسمح نفسه بإهمالها وتركها، فاستصحب منها جملة، فجاء إلى السفينة فلم يجد إلا مكانا ضيقا، وزاده ما حمله ضيقا، وصار ثقلا عليه ووبالا، فندم على أخذه، ولم تطعه نفسه على رميه، ولم يجد موضعا له، فحمله على عنقه ورأسه، وجلس في المكان الضيق في السفينة، وهو متاسف على أخذه ونادم، وليس ينفعه ذلك، وبعضهم تولج بتلك الانوار والغياض، ونسى السفينة وأبعد في متفرجه ومتنزهه، حتى إن نداء الملاح لم يبلغه لاشتغاله بأكل تلك الثمار، واشتمامه تلك الانوار، والتفرج بين تلك الاشجار، وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع، والسقطات والنكبات، ونهش الحيات، وليس ينفك عن شوك يتشبث بثيابه، وغصن يجرح جسمه، ومروة تدمى رجله، وصوت هائل يفزع منه، وعوسج يملا طريقه، ويمنعه عن الانصراف لو أراده، وكان في جماعة ممن كان معه في السفينة حالهم حاله، فلما بلغهم نداء السفينة راح بعضهم مثقلا بما معه فلم يجد في السفينة موضعا واسعا ولا ضيقا، فبقى على الشط حتى مات جوعا.

  وبعضهم بلغه النداء، فلم يعرج عليه، واستغرقته اللذة، وسارت السفينة، فمنهم من افترسته السباع، ومنهم من تاه وهام على وجهه حتى هلك، ومنهم من ارتطم في الاوحال، ومنهم من نهشته الحيات، فتفرقوا هلكى كالجيف المنتنة.