علوم البلاغة (البيان المعاني البديع)،

أحمد بن مصطفى المراغي (المتوفى: 1371 هـ)

أسرار البلاغة في الكناية

صفحة 308 - الجزء 1

  وليست فضيلة قولنا: جم الرماد على قولنا كثير القرى أن الأول أفاد زيادة لقراه لم يفدها الثاني بل هي أن الأول أفاد تأكيد الإثبات كثرة القرى له لم يفده الثاني، وذلك أن كل عاقل يعلم أن إثبات الصفة بإثبات دليلها آكد وأبلغ في الدعوة من أن تجيء اليها فتثبتها هكذا ساذجا عقلا، وذلك أنك لا تدعي دليل الصفة إلا والأمر ظاهر معروف وبحيث لا يشك فيه ولا يظن بالمخبر التجوز والغلط، كذا في «دلائل الإعجاز» مع اختصار.

أسرار البلاغة في الكناية

  الكناية فن من التعبير توخاه العرب استكثارا للألفاظ التي تؤدي ما يقصد من المعاني، وبها يتنوفون في الأساليب، ويزينون ضروب التعبير، ويكثرون من وجوه الدلالة، انظر الى امريء القيس تجده كنى عن المرأة ببيضة الخدر في قوله:

  وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل

  وإلى حميد بن ثور نراه كنى عنها بالسّرحة في قوله:

  أبى الله إلا أن سرحة مالك ... على كل أفنان العضاه⁣(⁣١) تروق

  فيا طيب رياها وبرد خلالها ... اذا حان من حامي النهار وديق⁣(⁣٢)

  وإلى النبي # وقد كنى عنها بالقارورة في قوله لأنجشه وهو يحدو بنسائه: «رفقا بالقوارير»، وبها ينصبون الدليل على كل قضية ويقيمون البرهان على كل مدعي، انظر الى المتنبي وهو يذكر وقيعة سيف الدولة بأعدائه:

  فمسّاهم وبسطهم حرير ... وصبّحهم وبسطهم تراب

  تجده قد أراد أن يبين أنه قهرهم وأذلهم بعد أن كانوا أعزة، لكنه تلطف في التعبير ونصب الدليل على صحة دعواه، فأشار الى عزتهم أولا بافتراشهم بسط الحرير، ثم الى ذلتهم بعد بافتراشهم بسط التراب.

  وتأسل قول أبي تمام يمدح أبا سعيد بن يوسف الثغري ويذكر كرمه:

  أبين فما يزرن سوى كريم ... وحسبك أن يزرن أبا سعيد


(١) شجر عظيم شائك.

(٢) شدة الحر في الهاجرة.