[المسألة الأولى في إثبات الصانع]
  وأما الاختلاف في الْمَحَالِّ فإنا وجدنا السماء مرتفعة، والأرض منخفضة، ووجدنا الجبل في محل والصحراء في محل، وكان من الممكن أن تكون الصحراء محل الجبل، والجبل محل الصحراء، والسماء منخفضة، والأرض مرتفعة، ولا مخصص، فهذه الصفات والأعراض التي أوجبت حدوث الأجسام والأعراض، وأن لها صانعاً مختاراً.
  وقد أشار الله سبحانه إليها في القرآن نحو قوله تعالى: {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ ١٧ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ١٨ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ١٩ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ٢٠}[الغاشية]، فدلنا على أن الاختلاف في الكيفيات دليل على أنه لا بد لها من صانع، وإلا كانت الآية عرية عن الفائدة، وكذا قوله تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّختَلِفٌ أَلوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ٢٧ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ ٢٨ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ ٢٩}[فاطر]، فنبهنا على أن الاختلاف يدل على حدوثها، وعلى قوة صانعها، وعلمه بكيفية الصنع وحكمته.
  وأيضاً: فإنَّ العالَمَ أجسامٌ، وأعراضٌ، فالجسم: هو الذي يشغل المكانَ طولاً وعرضاً وعمقاً، والأعراض: صفات ذلك الجسم، كالحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والصَّلابة والرخاوة، والخشونة والملاسَة، واللذة والألم، والشهوة والنفرة، والمحبة والكراهة، والغمِّ والسرور، وكذا سائرها.
  فالأجسام لا تخلو: إمَّا أن تكون ساكنة، أو متحركة، ولا يصح أن تكون لا ساكنة ولا متحركة.
  والحركة: انتقال الجسم من محل إلى محل. والسكون: لبثه في محل ولو يسيراً.
  والذي يدل على حدوث الحركة والسكون أنَّ الحركة تكون بعد السكون، والسكون بعد الحركة، فثبت أنه يحصل كل واحد منهما بعد عدمه، وهذا عين الحدوث، فثبت حدوثُهُما، وهما ملازمان للجسم، لا ينفكّ عن أحدهما، فلزم حدوثُهُ.