حلية اللب المصون بشرح الجوهر المكنون،

أحمد بن عبد المنعم الدمنهوري (المتوفى: 1192 هـ)

الباب الأول: أحوال الإسناد الخبري

صفحة 59 - الجزء 1

  واستدل الجاحظ بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ}⁣[سبأ ٨]، لأن الإخبار حال الجنة⁣(⁣١) غير الكذب؛ لأنه قسيمه، وغير الصدق؛ لأنهم يعتقدون عدم صدقه، فثبتت الواسطة.

  ورُدَّ بأن المعنى⁣(⁣٢): أم لم يفترِ، فعبر عن عدم الافتراء بالجِنَّة؛ من جهة أن المجنون لا افتراء له؛ لأن الافتراء: الكذب عن عمد، فهذا حصر للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه، أي: الكذب عن عمد، ولا عن عمد⁣(⁣٣)

  قال:

  الحُكْمُ بالسلبِ أوِ الإيجابِ ... إِسْنادُهمْ. وَقَصْدُ ذي الخِطابِ

  إفادةُ السامعِ نَفْسَ الحكْمِ ... أوْ كَوْنَ مُخْبِرٍ به ذا عِلْم

  فأولٌ فائدةٌ والثاني ... لازِمُها عِنْدَ ذوي الأذهان

  أقول: (إسنادُهم): - أي: الخبري؛ بدليل ما في الترجمة - معرَّفٌ، و (الحكم بالسلب أو الإيجاب): تعريفٌ. والمراد: الحكم بأن النسبة واقعة كـ: «زيد قائم»، أو ليست بواقعة كـ: «زيد ليس بقائم».

  ولا مخالفة بين هذا التعريف وما تقدم؛ لمراعاة المعنى هنا واللفظ هناك؛ لأن الخبر يكون معقولا وملفوظاً، فالتعريفان بالاعتبارين.

  وقوله: (وقصد ..) إلى آخر البيت الثاني: المراد بذي الخطاب: المخبِر، أي: الذي هو بصدد الإخبار والإعلام، لا كل مُخبِر⁣(⁣٤)؛ إذ قد يكون مقصود المخبِر إظهار الضعف، نحو: {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي}⁣[مريم ٤]، أو التحزن والتحسر، نحو: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى}⁣[آل عمران ٣٦]؛ إذ المولى سبحانه عالم بالفائدة ولازمها في


(١) أي: المذكور في قوله: {أَم بِهِ جِنَّةٌ}.

(٢) أي: معنى: {أَم بِهِ جِنَّةٌ}.

(٣) وحينئذ فالإخبار حال الجنة كذب أيضا؛ فلا واسطة. دسوقي.

(٤) لفظ المطول: «لا شك أن قصد المخبر» أي: من يكون بصدد الإخبار والإعلام، لا من يتلفظ بالجملة الخبرية؛ فإنه كثيرًا ما تورد الجملة الخبرية لأغراض أخرى، مثل: إظهار التحسر نحو: قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى}⁣[آل عمران ٣٦]، أو إظهار الضعف نحو: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي}⁣[مريم ٤]. بتصرف.