الباب الأول: أحوال الإسناد الخبري
  قال:
  واسْتَحْسِنِ التَّوْكيدَ إِنْ لَوَّحْتَ لَهْ ... بِخَبَرٍ كَسائِلٍ في الْمَنْزِلَةْ(١)
  وألحقوا أَمارةَ الإِنكار بِهْ ... كَعَكْسِهِ لِنُكْتَةٍ لَمْ تَشْتَبِهْ
  أقول: تقدم أن إخراج الكلام على الوجوه المتقدمة إخراج على مقتضى الظاهر، وقد يُخْرَجُ الكلام على خلافه، فيؤتى بمؤكد استحسانًا لخالي الذهن إذا قُدِّم إليه ما يلوح بالخبر، فيستشرف له(٢) استشرافَ المترددِ الطالب، نحو: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا}[هود ٣٧]، أي: لا تدعني يا نوح، في شأن قومك، فهذا الكلام يلوح بالخبر، ويشعر بأنه قد حق عليهم العذاب؛ لأن النهي مُشَوِّفٌ(٣) للنفس عادةً إلى طلب السبب، فصار المقام مقام أن يتردد(٤) المخاطب في أنهم هل صاروا محكومًا عليهم بالإغراق أم لا؟ فقيل: {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} بالتأكيد. وهذا معنى قوله: (واستحسن ..) البيت.
  والضمير في (له): للمخاطب. وقوله: (كسائل): أي: كطالب. (في المنزلة)، أي: مُنَزِّلًا له منزلةَ الطالب للخبر. ويُجْعَلُ(٥) المقرُّ كالمنكر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار، فيؤكد له الكلام تأكيد المنكر، نحو [السريع]:
  جاءَ شقيقٌ عارضًا رُمحَهُ ... إن بني عمِّك فيهم رماح(٦)
(١) أي: في المكانة، أي نُزِّل غير السائل مكان السائل.
(٢) «فيستشرف» أي: غير السائل «له» أي: للخبر، يعني ينظر إليه، يقال: استشرف الشيء إذا رفع رأسه ينظر إليه وبسط كفه فوق الحاجب كالمستظل من الشمس.
(٣) يقال: تشَوَّفَ فلان لكذا إذا طمح بصره إليه، ثم استعمل في تعلق الآمال وطلبها.
(٤) أي: صار المقام بسبب الملوح إلى جنس الخبر مظنة التردد والطلب وإن لم يتردد المخاطب ولم يطلب بالفعل، وإلا لكان إخراجا على مقتضى الظاهر.
(٥) معطوف على قوله: «فيؤتى بمؤكد استحسانا».
(٦) هذا البيت للشاعر الجاهلي: حَجَل بن نضلة القيسي، والشاهد فيه: تأكيد الخبر بـ «إن» تنزيلا لشقيق منزلة المنكر أنَّ في بني عمه رماحًا.