حلية اللب المصون بشرح الجوهر المكنون،

أحمد بن عبد المنعم الدمنهوري (المتوفى: 1192 هـ)

الباب الأول: أحوال الإسناد الخبري

صفحة 63 - الجزء 1

  قال:

  واسْتَحْسِنِ التَّوْكيدَ إِنْ لَوَّحْتَ لَهْ ... بِخَبَرٍ كَسائِلٍ في الْمَنْزِلَةْ⁣(⁣١)

  وألحقوا أَمارةَ الإِنكار بِهْ ... كَعَكْسِهِ لِنُكْتَةٍ لَمْ تَشْتَبِهْ

  أقول: تقدم أن إخراج الكلام على الوجوه المتقدمة إخراج على مقتضى الظاهر، وقد يُخْرَجُ الكلام على خلافه، فيؤتى بمؤكد استحسانًا لخالي الذهن إذا قُدِّم إليه ما يلوح بالخبر، فيستشرف له⁣(⁣٢) استشرافَ المترددِ الطالب، نحو: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا}⁣[هود ٣٧]، أي: لا تدعني يا نوح، في شأن قومك، فهذا الكلام يلوح بالخبر، ويشعر بأنه قد حق عليهم العذاب؛ لأن النهي مُشَوِّفٌ⁣(⁣٣) للنفس عادةً إلى طلب السبب، فصار المقام مقام أن يتردد⁣(⁣٤) المخاطب في أنهم هل صاروا محكومًا عليهم بالإغراق أم لا؟ فقيل: {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} بالتأكيد. وهذا معنى قوله: (واستحسن ..) البيت.

  والضمير في (له): للمخاطب. وقوله: (كسائل): أي: كطالب. (في المنزلة)، أي: مُنَزِّلًا له منزلةَ الطالب للخبر. ويُجْعَلُ⁣(⁣٥) المقرُّ كالمنكر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار، فيؤكد له الكلام تأكيد المنكر، نحو [السريع]:

  جاءَ شقيقٌ عارضًا رُمحَهُ ... إن بني عمِّك فيهم رماح⁣(⁣٦)


(١) أي: في المكانة، أي نُزِّل غير السائل مكان السائل.

(٢) «فيستشرف» أي: غير السائل «له» أي: للخبر، يعني ينظر إليه، يقال: استشرف الشيء إذا رفع رأسه ينظر إليه وبسط كفه فوق الحاجب كالمستظل من الشمس.

(٣) يقال: تشَوَّفَ فلان لكذا إذا طمح بصره إليه، ثم استعمل في تعلق الآمال وطلبها.

(٤) أي: صار المقام بسبب الملوح إلى جنس الخبر مظنة التردد والطلب وإن لم يتردد المخاطب ولم يطلب بالفعل، وإلا لكان إخراجا على مقتضى الظاهر.

(٥) معطوف على قوله: «فيؤتى بمؤكد استحسانا».

(٦) هذا البيت للشاعر الجاهلي: حَجَل بن نضلة القيسي، والشاهد فيه: تأكيد الخبر بـ «إن» تنزيلا لشقيق منزلة المنكر أنَّ في بني عمه رماحًا.