إيجاز القصر
  وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ}(١)، فتلك جملة تضمنت سرا من أسرار التشريع الجليلة، التي عليها مدار (سعادة المجتمع البشري في دنياه وأخراه) بيان ذلك أن الإنسان اذا همّ بقتل آخر لشيء غاظه منه فذكر أنه إن قتله قتل، ارتدع عن القتل، فسلم المهموم بقتله، وصار كأنه استفاد حياة جديدة، فيما يستقبل بالقصاص مضافة الى الحياة الأصلية، وأن هذا مما أثر عن العرب من قولهم: القتل أنفى للقتل، فإن الآية تمتاز بوجوه(٢):
  ١ - أنها كلمتان وما أثر عنهم أربع.
  ٢ - لا تكرار فيها وفيما قالوه تكرار.
  ٣ - ليس كل قتل يكون نافيا للقتل، وإنما يكون ذلك إذا كان على جهة القصاص.
  ٤ - حسن التأليف وشدة التلاؤم المدركان بالحسن فيها لا في ما قالوه.
  ٥ - أن فيها الطباق للجمع بين القصاص والحياة، وهما كالضدين كما ستعرف ذلك في البديع.
  ٦ - أن فيها التصريح بالمطلوب وهو الحياة بالنص عليها، فيكون أزجر عن القتل بغير حق وأدعى إلى الاقتصاص.
  ٧ - أن القصاص جعل فيها كالمنبع للحياة والمعدن لها بادخال (في) عليه، فكأن أحد الضدين، وهو الفناء، صار محلا لضده الآخر، وهو الحياة، وفي ذلك ما لا يخفى من المبالغة، وقد نظم أبو تمام معنى ما ورد عن العرب في شطر بيت، فقال:
  وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم ... (إن الدم المغبر يحرسه الدم)
  كما للسنّة النبوية من ذلك الحظ الأوفر، ويرشد الى ذلك قوله #: «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا».
  فمن ذلك قوله #: المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وعوّدوا كل جسم ما اعتاد ... فهو قد جمع من الأسرار الطبية الشيء الكثير.
(١) سورة البقرة الآية ١٧٩.
(٢) فاضل بينهما السيوطي في «الاتقان» بأكثر من عشرين وجها، أهمها ما ذكرنا.