علوم البلاغة (البيان المعاني البديع)،

أحمد بن مصطفى المراغي (المتوفى: 1371 هـ)

الباب الثاني عشر في الايجاز والاطناب والمساواة وفيه خمسة مباحث

صفحة 198 - الجزء 1

  فلا هجره يبدو وفي اليأس راحة ... ولا وصله يبدو لنا فنكارمه

  فإن قوله: فلا هجره يبدو، يشعر بأن هجر الحبيب أحد مطلوبيه، وغريب أن يكون هجر الحبيب مطلوبا للمحب، فقال: (وفي اليأس راحة) لينبه إلى السبب.

  ومما جاء بين كلامين متصلين معنى، وهو أكثر من جملة أيضا، قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ}⁣(⁣١)، فإن قوله: نساؤكم حرث لكم، بيان لقوله: فأتوهن من حيث أمركم الله، لإفادة أن الغرض الأصلي من الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة فقط، وما بينهما اعتراض للترغيب فيما أمروا به، والتنفير عما نهوا عنه.

  ٩ - النفي والإثبات بأن يذكر الشيء على جهة النفي، ثم يثبت أو بالعكس نحو: {وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ}⁣(⁣٢)، نفى عنهم أولا العلم بما خفى عليهم من تحقيق وعده، ثم أثبت لهم آخرا العلم بظاهر الحياة الدنيا دون ما كان مؤديا الى الجنة.

  ١٠ - ما كان كقولهم: رأيته بعيني، وقبضته بيدي، ووطئته بقدمي، وذقته بلساني - يذكرون الظروف فيما يصعب حصوله، دلالة على أن نيله ليس بمتعذر، وعلى هذا جاء قول البحتري:

  تأمل من خلال السجف وانظر ... بعينك ما شربت ومن سقاني

  تجد شمس الضحى تدنو بشمس ... إليّ من الرحيق الخسرواني⁣(⁣٣)

  فحضور مثل هذا المجلس نادر، ولا سيما اذا كان الساقي فيه على ما وصف من الحسن، ومن ثم قال: انظر بعينك.

  (تنبيه) قد يوصف الكلام بالإيجاز والاطناب باعتبار كثرة حروفه وقلتها بالنسبة الى كلام آخر مساويا له في أصل المعنى كقول الشماخ يمدح عرابة الأوسي:


(١) سورة البقرة الآية ٢٢٣.

(٢) سورة الروم الآية ٦.

(٣) السجف بالكسر والفتح: الستار، والخسرواني ضرب من الثياب منسوب لبلاد فارس.