المبحث الرابع في طريق إلقاء الخبر
المبحث الرابع في طريق إلقاء الخبر
  من مزايا اللغة العربية دقة التعبير واختلاف الأساليب، بتنوع الأغراض والمقاصد، فمن الخطل عند ذوي المعرفة البسط والأطناب، اذا لم تكن الحاجة ماسة اليه، والإيجاز حيث تطلب الزيادة، وقد خفيت هذه الدقائق على الخاصة بله العامة، ويرشد الى ذلك ما رواه الثقات من أن المتفلسف الكندي ركب الى أبي العباس المبرد، وقال له: إني لأجد في كلام العرب حشوا، فقال ابو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال: أجد العرب يقولون: عبد الله قائم، ويقولون أن عبد الله قائم، ثم يقولون أن عبد الله لقائم، فالألفاظ متكررة والمعنى واحد. فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ، فالأول إخبار عن قيامه والثاني جواب عن سؤال سائل والثالث جواب عن إنكار منكر قيامه، فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني، فما أحار المتفلسف جوابا.
  ومن هذا تعلم أن العرب لاحظت أن يكون الكلام بمقدار الحاجة لا زائدا عليها، وإلا كان عبثا، ولا ناقصا وإلا أخل بالغرض، وهو الإفصاح والبيان، وتعلم أيضا أن المخاطب لا يخلو من أن يكون واحدا من ثلاثة:
  (١) خالي الذهن من الحكم، ومن التردد فيه فيلقي اليه الكلام ساذجا غفلا من أدوات التوكيد التي سترد عليك، ويسمى هذا الضرب ابتدائيا، نحو: محمد مسافر.
  (٢) المتردد في ثبوت الحكم وعدمه بألا يترجح عنده هذا على ذلك، وحينئذ يحسن تقوية الحكم بمؤكد ليزيل ذلك التردد، ويسمى هذا الضرب طلبيا.
  ويرى عبد القاهر أنه إنما يحسن التوكيد اذا كان للمخاطب ظن على خلاف حكمك، وله تشوف الى الوقوف على الحقيقة، فيحسن تقوية الحكم له بأن ونحوها ليتمكن المعنى المراد في نفسه ويطرح الخلاف وراء ظهره.
  ثم قال: ومن ثم يحسن موقع إن اذا كان الخبر بأمر يبعد في الظن مثله لأن العادة جرت بخلافه كقول أبي نواس:
  عليك باليأس من الناس ... إن غنى نفسك في اليأس
  لما كان في مجرى العرف والعادة ألا يدع الناس الطمع والرجاء ويحملوا أنفسهم على اليأس ويجعلوا فيه الغنى كما ادعى، أكده بأن.