المبحث الرابع في طريق إلقاء الخبر
  (٣) المنكر للحكم، وهذا يجب أن يؤكد له الكلام بقدر إنكاره، قوه وضعفا، ذاك أن المتكلم أحوج ما يكون الى الزيادة في تثبيت خبره إذا كان هناك من ينكره ويدفع صحته، فهو حينئذ يبالغ في تأكيده حتى يزيل إنكاره، يدل على ذلك ما قصه الله تعالى علينا حكاية عن رسل عيسى # حين بعثهم الى أهل أنطاكية فكذبوهم فقالوا لهم في المرة الأولى: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ}(١) وفي الثانية: {رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}(٢) فأكدوا لهم أولا بأن واسمية الجملة، وثانيا بالقسم (إذ ربنا يعلم في حكم، علم الله وشهد الله) وان اللام والجملة الاسمية لما رأوا من شديد إنكارهم، ويسمى هذا الضرب إنكاريا(٣).
  والجري على هذا المنهج والسير على تلك الطريق في الأضرب الثلاثة يسمى: إخراج الكلام على مقتضى الظاهر.
  وقد يلاحظ المتكلم اعتبارات أخرى خفية، فيخرج كلامه على اعتبارها، ويسمى ذلك إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، ولذلك صور كثيرة، منها:
  (١) أن ينزل غير السائل منزلة السائل، فيؤكد له الكلام اذا تقدم ما يشير الى حكم الخبر فتستشرف نفسه وتتطلع اليه استشراف الطالب المتردد، وذلك كثير في القرآن الكريم وكلام العرب، نحو قوله تعالى: {وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}(٤) فحين تقدم قوله: واصنع الفلك بأعيننا، وقوله: ولا تخاطبني، صار المقام مقام تردد بأن القوم هل حكم عليهم بالإغراق؟ فقيل: إنهم مغرقون، وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}(٥). وقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}(٦).
(١ و ٢) سورة يس الآية ١٤ و ١٦.
(٣) واعتبارات النفي كاعتبارات الاثبات فيجرد عن المؤكدات فى الابتدائي ويقوي بموكد استحسانا في الطلبي ويجب التوكيد في الانكاري.
(٤) سورة المؤمنون الآية ٢٧.
(٥) سورة الحج الآية ١، فان أمرهم بالتقوى يشير الى جنس الخبر الآتي بعده وأن هناك أهوالا تؤمن التقوى من فزعها في ذلك اليوم، فكان المقام مقام تردد في أنه هل هناك أمامهم أمر مهم يقع لهم أن لم يتقوا، فقيل أن زلزلة الخ، وهكذا يقال فيما بعده.
(٦) سورة التوبة الآية ١٠٣.