[وصية أمير المؤمنين لولده الحسن @]
  يُسِيمُهَا، سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى، وَأخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى، فَتاهُوا فِي حَيْرَتِهَا، وَغَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا، وَاتَّخَذُوهَا رَبّاً، فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَلَعِبُوا بِهَا، وَنَسُوا مَا وَرَاءَهَا.
  رُوَيْداً يُسْفِرُ الظَّلَامُ، كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الْأَظْعَانُ، يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ!
  وَاعْلَمْ، أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفاً، وَيَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَإِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً.
  فاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَذِنَ فِي خَرَابِ الدُّنْيَا وَعِمَارَةِ الْآخِرَةِ فَإِنْ زَهِدْتَ فِيمَا زَهَّدْتُكَ فِيهِ وَرَغِبْتَ فِيمَا رَغَّبْتُكَ فِيهِ فَأَهْلُ ذَلِكَ أَنْتَ، وَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابِلٍ نُصْحِي فَاعْلَمْ يَقِيناً، أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ، وَلَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ، وَأَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ، وَأَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ، فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ، فَلَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوق، وَلَا كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْروُم، وَأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً. وَلَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً. وَمَا خَيْرُ خَيْرٍ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِشَرٍّ، ويُسْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِعُسْرٍ؟!
  وَإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ، فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ، وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ، فإِنَّكَ مُدْرِكٌ قِسْمَكَ، وَآخِذٌ سَهْمَكَ، وَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ.
  وَاعْلَمْ أنَّكَ لَسْتَ بَائِعاً شَيْئاً مِنْ دِينِكَ وَعِرْضِكَ بِثَمَنٍ وَإِنْ جَلَّ إِلَّا كُنْتَ مَغْبُوناً، وَالْمَغْبُونُ مَنْ غَبِنَ نَصِيبَهُ مِنَ اللهِ، خُذْ مِنَ الدُّنْيَا مَا أَتَاكَ، وَتَوَلَّ عَمَّا تَوَلَّى عَنْكَ، فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَأَجْمِلْ فِي الطَّلَبِ.