الحديث الثامن
  الانقطاع هو انفعال من القطع وهو صرم الرجاء والأمل والطلب والطمع إلا في الله تعالى ومنه، فإنَّ كلَّ مأمولٍ سواه ربما خاب فيه الأمل؛ لعجزه عن إعطاء المأمول، أو بخله به، أو محاذرة الفقر والفاقة لأجل تسليمه، إلى غير ذلك من صوارف العاجزين، والحكيمُ سبحانه بخلاف ذلك كلِّه، وكيف وهو الغني الذي تستحيل عليه الحاجة، القادر الذي يستحيل عليه العجز، الجواد الواسع الذي لا يَفِرُ(١) مُلْكَهُ المنعُ، ولا يُكْدِي(٢) كَرَمَهُ الإعطاءُ، وهو على ما يشاء قدير، وفي الحديث المروي عن النَّبي ÷ أنه قال: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا فَسَأَلَنِي كُلُّ سَائِلٍ مِنْهُمْ مَا بَلَغَتْ إِلَيْهِ أُمْنِيَّتُهُ، وَأَعْطَيْتُ كُلَّ سَائِلٍ مَا سَأَلَ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي إِلَّا كَمَا لَوْ مَرَّ أَحَدُكُمْ على شَفِيرِ الْبَحْرِ فَغَمَسَ فِيهِ إِبْرَةً ثُمَّ انْتَزَعَهَا» وهذا لعمر الله الجودُ الذي لا يُساجَل، والاقتدار الذي لا يُقابَل.
  ومعنى الانقطاع في كلامهم ظاهرٌ، يقول قائلهم انقطع فلان إلى فلان، إذا لم يَأْمُلْ أحداً سواه، ولم يتعدَّ في أوامره رضاه، فإذا عمل العبد فيما بينه وبين الله تعالى هذا العمل كان قد انقطع إليه حقيقة الانقطاع.
  قوله #: كَفَاهُ اللهُ كُلَّ مُؤْنَةٍ فِيهَا.
  الكفايةُ هي دفع الْمَخُوف بقهرٍ أو إعطاء، والمؤنة هي الثِّقْل والكُلفة، والضمير في قوله #: (فِيهَا) عائدٌ إلى الدنيا.
  وَمَعْنَى ذَلكَ: أنَّ المنقطع إلى الله تعالى يُكْفى جميعَ مُؤَنِ الدنيا ومشاقِّها بأحد أمرين: إما بدفع المكروه، وإما بتعريفه له ما في مقابلته من العِوَض، فيرتفع ثِقْلُ تلك المشاق ويخفُّ حملُها؛ فلا يبقى على العبد طائلُ مشقَّةٍ فيها، بل يبقى خِفّاً وسروراً وجَذلاً وحُبُوراً.
  وقد روينا أن جعفر بن أبي طالب # كان في يده عَرْقٌ(٣) يوم مُؤْتَة ينهشه ليتقوَّى به؛
(١) من الوفور، وهو الزيادة.
(٢) أَكدَى الْمَطَرُ: قَلَّ ونَكِد. وكَدَى الرَّجُلُ يَكْدِي وأَكْدَى: قَلَّلَ عَطَاءَهُ، وَقِيلَ: بَخِلَ. وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى ٣٤}. (لسان العرب ١٥/ ٢١٦).
(٣) العَرْق بِالسُّكُونِ: العَظْم إِذَا أُخذ عَنْهُ مُعْظَم اللَّحْمِ. ا. هـ (النهاية ٣/ ٢٢٠).