الحديث الثامن
  إذْ سمع الحَطْمَةَ في المسلمين، فألقاه وصَمَدَ(١) العدوَّ وهو يقول:
  يا حَبّذا الْجَنّةُ وَاقْتِرَابُها ... طَيِّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرَابُها
  وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُها ... عَلَيَّ إِنْ لَاقَيْتُها ضِرَابُها
  فقد رأيتَ كيف قابل المكروهَ بحبَّذا، وهم لا يقابلون به إلَّا ما يتناهى في الخِفَّة على قلوبهم والسرور بلقائه، قال قائلهم:
  وَيَا حَبَّذا بَرْدُ أَنْيَابِهِ ... إذَا أَظْلَمَ اللَّيلُ واجْلَوَّذَا(٢)
  وبكلِّ واحد من الأمرين: إمَّا صرف المؤنة وإما تخفيف مؤنتها بتعريف المكلَّف ما في مقابلتها تقع الكفاية.
  قوله #: وَمَنِ انْقَطَعَ إِلَى الدُّنْيَا وَكَلَهُ اللهُ إِلَيْهَا.
  قد تقدم معنى الانقطاع، وهو أن لا يجعل له همّاً ولا أملاً إلا الدنيا، وهو الناصح الصادق # أنَّ من جعل الدنيا همه وأمله وجعل لها سعْيَه وعمله؛ وَكَلَهُ الله إليها، على معنى أنه لا يُعْطى خيراً سواها، وقد علم العالمون قِلَّة بقائها، وسرعة فنائها، فمن وُكِل إليها وُكِل إلى غير كافٍ، وإنَّما وُكِل إليها لأنَّه لم يعمل للآخرة فيستحق ثوابها وحورها وقبابها وبردها وشرابها، وكيف يستحق ذلك وقد جعل همَّهُ جَمْعَ حُطامها، والتَّلبُّس بدنس آثامها، فليس يبلغ من مَطالبها نهاية إلَّا وخفَقَتْ لِطَرْفه في أقصى آمالها غايةٌ، فلا يزال لكَدِّها وكدحها في نصبٍ شديد، حتى ينزل ما كان عنه يَحيد، فيندم حيثُ لا ناصرَ يمنعُه، ولا عذر ينفعه، فلا تأس على القوم الكافرين.
  ولِمَ لا يكون كذلك وقد خرَّبَ ما أُمِرَ بعمرانه من الآخرة الباقية، وعَمَرَ ما أُمِر بتخريبه من
(١) صَمَدَ: أيْ قَصَدَ، قال في مقاييس اللغة (٣/ ٣٠٩): الصَّمْدُ: الْقَصْدُ. يُقَالُ: صَمَدْتُهُ صَمْدًا. وَفُلَانٌ مُصَمَّدٌ، إِذَا كَانَ سَيِّدًا يُقْصَدُ إِلَيْهِ فِي الْأُمُورِ. وَصَمَدٌ أَيْضًا. وَاللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الصَّمَدُ ; لِأَنَّهُ يَصْمِدُ إِلَيْهِ عِبَادُهُ بِالدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ.
(٢) اجْلَوَّذ: إِذا أَسْرَعَ، وأصله من الاجْلِوَّاذِ في السَّيْرِ وهو الْإِسْرَاعُ. والبيت الذي قبله:
أَلَا حَبَّذَا حَبَّذَا حَبَّذَا ... حَبِيبٌ تَحَمَّلْتُ مِنْهُ الأَذَى
ويَا حَبَّذَا بَرْدُ أَنْيَابِهِ ... إِذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ واجْلَوَّذَا
(انظر اللسان ٣/ ٤٨٢).